الفصل الثامن: فقر وتجرد- إستقبال القريب
- بالكامل (3.54 Mo)
- جزء 1 (1.27 Mo)
- جزء 2 (932 Ko)
- جزء 3 (1.52 Mo)
سنبدأ بالإكتشاف مع زكّا الصّغير ما هو المسكين بالرّوح، التّطويبة الّتي تفتح الطّريق إلى جميع الأخريات. وكعادتنا، سنتابع طريقنا مع فرنسيس، الّذي تعلّق بشدّة بسيّدة الفقرلدرجة أنّ معاصريه والأجيال القادمة لقبّوه بالفقيّر. أخيراً، سننهي فصلنا بقراءة البندين ١١و١٣ من قاعدتنا، الّلذين يدعواننا للتّحرّر من كلّ رغبة امتلاك وتسلّط ، حريّة ضروريّة حتماً لإستقبال كلّ إنسان،خاصّة الأكثر تواضعاً.
- 0
اليوم، ينبغي لي أن أمكث في بيتكَ
سنفتح هذا الفصل بإكتشاف زكّا، جائب الضّرائب هذا، سارق ساعاته، والّذي يبحث عن رؤية يسوع(لو١٩ ١-١٠).
وسيساعدنا فصل من الإنجيل كهذا للتّعرّف على أنفسنا أكثر إذ في النّهاية، زكّا الصّغير هذا، لصّ في ساعاته، هو تقريباً نحن...
زكّا
إجتاز يسوع مدينة أريحا. وإذ هناك رجلاً يدعى زكّا؛ كان رئيس العشّارين، و رجلاً غنيّاً جدّاً. كان يبحث عن رؤية من هو يسوع، لكنه لم يستطع من كثرة الجمع، إذ كان قصير القامة. فتقدّم مسرعاً، وصعد إلى جمّيزة لرؤية يسوع لأنّه كان مزعماً أن يجتاز بها. فلمّا وصل يسوع إلى هذا المكان، رفع عينيه وقال له :" يا زكّا اسرع إنزل: فاليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك".فنزل مسرعاً واستقبل يسوع فرحاً. فلمّا رأى الجميع هذا، تذمّروا قائلين : " لقد حلّ عند رجل خاطئ." لكن، تقدّم زكّا أمام يسوع وقال له : " هآ أنذا يا ربّ أعطي المساكين نصف أموالي، وإن كنتُ غبنتُ أحداً في شيء، أردّ أربعة أضعاف." فقال له يسوع : اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت، لأنّه هو أيضاً ابن إبراهيم. لأنّ ابن البشر إنّما أتى ليطلب ويُخلّص ما قد هلكَ."
من هو زكّا؟
حسب حكم معاصريه الخاصيّين، زكّا هوخاطئ، وضع متعذّر إصلاحه في نظر" الطّاهرين" و"الكاملين". باختصار، هم محكوم عليه بلا جدوى من قبل جميع الّذين ليس لديم شيئاً للعتاب. من جهة أخرى، في كلمة مدان، هناك كلمة دان. يجب الإعتراف موضوعيّاً أنّ تقويم وضع زكّا الخاطئ ليس من دون أساس. يعترف يسوع بنفسه، دون أن يقدّم هذا الأخير أي حكم :" لأنّ ابن البشر إنّما أتى ليطلب ويخلّص ما قد هلك. "
كان رئيس العشّارين (هؤلاء رجال الأعمال تحت خدمة هيرودس والرّومان)، رجلاً غنيّاً جدّاً. ليس حال الغنى الّذي يُحدث، في حدّ ذاته، وضعه كخاطئ؛ لكن طريقة الحصول على المال يُمكن أن تكون سبباً للخطيئة. هو إذاً" مالاً وسخاً". من خلال اعترافه الخاص، ليس لزكّا إلاّ مالاً وسخاً في هميانه: "وإن كنتُ قد غبنتُ أحداً في شيء أردّ له أربعة أضعاف". هذا ما يجعلنا نعتقد بوضوح أنّ ثروة زكّا لم تُحصل دائماً بطريقة نزيهة.
يمكن أن تكون طريقة صرف المال سبباً للخطيئة. يضمّ الإنجيلي متى دائماً، في إنجيله،كلمة عشّار مع كلمة خاطئ أو كلمة مومس. إذاً لقد كان العشّارون" رجالاً مرحين"، طالبي لدّة وقحين يستفيدون من الحياة دون الإهتمام بالآخرين. إذا لم يتحدّث مقطع زكّا عن الخطأة أو المومسات بوضوح، فإنّ قرار زكّا الحازم - هآنذا يا ربّ: أعطي المساكين نصف أموالي- يُظهر أنّ زكّا، قبل تلك الّلحظة المحدّدة، كان يعيش كإنسان أنانيّ محترم.
الّلقاء وثماره
يمثّل زكّا الصّغير كلّ واحد منّا، المشارك بين بحثنا عن سعادة أرضيّة، وهذا الإنجذاب الغامض والعميق في نفس الوقت نحو الّذي هو. مثل زكّا، نحن قصيرو القامة لرؤية يسوع، لكنّ هذه الرّغبة المضطربة لهذا الّلقاء تُعطي أجنحة- فتقدّم مسرعاً وصعد إلى جمّيزة * ينعم علينا أيضاً الإنجيلي لوقا،المخلص لنفسه، بإحدى تفاصيله الّتي يملك وحده السّرّ، وبمظهر غير مؤدٍ، تجعلنا نلمح شيئاً غير مؤدياً. لماذا إذاً جمّيزة ؟ لماذا لا يبقى لوقا أكثر شمولاً في تحريره بكتابته ببساطة أنّ زكّا صعد على شجرة؟ هذا لأنّ الإنجيلي يرى في هذه الدّقة معناً خاصّاً يُغني سيرته. إنّ الجمّيزة هي نوع من تين متوحّش. يُشبه ثمره التّين لكنه ليس مأكولاً إلاّ بإستعمال علاج خاصّ. ما يريد لوقا قوله لنا ، هو أنّ الجمّيزة الّتي تعطي ثماراً غير مأكولةً، هو زكّا، عشّاراً وقحاً قبل الّلقاء بالمخلّص. يسوع، المخلّص، هو الّذي يعطي العلاج الخاصّ، علاجاً يجعل ثمار الجمّيزة مأكولةً. لينظره-. لكنّ النّعمة تسبقنا دائماً. ترفعنا فوق سطحيتنا لكي يحصل هذا الّلقاء المرغوب. لكن لن يحصل الّلقاء على الشّجرة. سرّ نعمة الله، ليس زكّا الّذي يرتفع نحو يسوع، بل يسوع هو الّذي يأتي إلى بيته، إلى قلبه، إلى روحه. هنا مخطّط الخلاص الإلهي لحياة كلّ إنسان. وهكذا يؤدّي لكلّ اهتداء مسيحيّ. لا يتمحور في حصر لقوّاتنا السّاخرة نحو الإلهيّة بل إستقبال وثيق لمجيء الله الكتوم والغامر في حياتنا.
لا ينتهي لقاء زكّا مع ربّه في سعادة بلقاء حميم، رغم أنّ هذا الأخيريوجد تماماً. لكن ينتشرهذا الّلقاء في جميع مقاييس حياة الّذي التقى بالله. فجأةً واعياً بالثّروة الّتي أتى بها الله ووضعها في قلبه، إلتفت زكّا نحو إخوته ليشاركهم بها : "هآنذا يا ربّ أعطي المساكين نصف أموالي". وواعياً بأغلاطه وحقارته، يريد زكّا إصلاح أخطائه الّتي سبّبها :" وإن كنتُ قد غبنتُ أحداً في شيء أردّ أربعة أضعاف."
يفرح يسوع لهذا الإهتداء، إذ هو أيضاً ابن إبراهيم. رغم ذلك،وبينما هذا البحث عن الإله من قبل زكّا (شخصاً غنيّاً) يشبه بشكل غريب بحث الشّاب الغنيّ الّذي يسأل يسوع : يا معلّم ماذا أعمل من الصّلاح لأرثَ الحياة الأبديّة؟ (متى١٩ ١٦)، لا يشير لنا النّصّ الإنجيلي أنّ زكّا باع كلّ خيراته ليعطيها للفقراء وإتباع يسوع. غير أنّ هذا ما طلبه يسوع للشّاب الغنيّ : " إن كنتَ تريد أن تكون كاملاً فاذهب وبع كلّ شيء لكَ وأعطه للمساكين فيكون لكَ كنزاً في السّماء و تعال اتبعني."بخصوص زكّا، يسمح لنا غياب هذا النّوع من الإستنتاج بالإعتقاد أنّ زكّا قد تابع واجبه ، كجائب ضرائب، لكن بتغييره كلّيّاً طريقة وجوده وعيشه. إذاً هذا يعني إن نادى يسوع كلّ إنسان لإتباعه، فهو لا يدعو كلّ شخص لإتباعه بنفس الطّريقة. وبالتّالي، لا ينتظر من كلّ فرد" نتائج" مطابقة على الصّعيد البشري، لكن روحاً مطابقة له. يعبّر مثل المواهب بوضوح خاصّ(متى٢٥ ١٤-٣٠) هذا الموضوع. عندما يسافر المعلّم، يسلّم أمواله لعبيده. فأعطى واحداً خمس وزنات وآخر وزنتين وآخر وزنه كلّ واحد على قدر طاقته. لم ينل كلّ واحدٍ منهم مثل الآخر، لكن على قدر طاقته. نستطيع التّرجمة : كلّ واحد حسب وضعه: مثلاً،سيكون الوضع مختلفاً للرّاهب وأب العائلة. مع هذا، نستطيع الإستنتاج، من خلال وحدة التعبير المستعملة من قبل المعلّم لدى رجوعه، أنّ فرحة هذا الأخير هي مشابهة تماماً تجاه الخادم الّذي ربح خمس وزنات كالّذي لم يربح إلاّ وزنتين : " أحسنتَ أيّها العبد الصّالح الأمين، قد وُجدتَ أميناً في القليل فسأُقيمكَ على الكثير؛ أُدخل إلى فرح ربّكَ"(متى٢٥ ٢١و٢٣). لاينتظر المعلّم إذاً نفس خيرات الحياة من كلّ شخص( إذا قرّر جميع سكّان الأرض، فجأةً، بأن يكونوا رهباناً أو رهباناً متصوّفين، فمن السّهل تخيّل الفوضى الّتي ستحدث)،لكن روحاً تحي حياة كلّ شخص من كان، في جميع الحالات، مطابقة له. نستطيع هنا التّذكير أنّنا عالجنا في الفصل السّابق، أيّ أنّ الدّعوة الأولى والأساسيّة الّتي يقدّمها الله في يسوع المسيح من خلال الرّوح القدس لكلّ علمانيّ هي دعوة القداسة، أي الكمال إلى الإحسان. إذاً،أكنّا أغنياء أو فقراء، بصحّة جيّدة أو مرضاء،أمراء هذا العالم أو متواضعين،كثيري الأشغال أو عاطلين عن العمل، ما علينا قوله، ما علينا فعله، فليكن دائماً بإسم سيّدنا يسوع المسيح، مقدّمين من خلاله شكرنا لله الآب. باختصار، ولعدم التّكرار، إنّ ما الّذي ينتظره الله منّا، هو بأن نكون قدّيسيّن.
يحتلّ القدّيس الله وملكوته بإتباعه بإخلاص شريعة الله، المعطاة من الله في سيناء. يقول لنا المسيح أنّه جاء ليتمّم هذا النّاموس وليس لحلّه(متى٥ ١٧) * نجد عند القدّيس متى معروضاً عن روح ملكوت الله الجديد (فصل٥ إلى٧) موّسّعاً إلى خمس مواضيع رئيسيّة.١. ما هو الرّوح الّذي عليه إحياء أبناء الملكوت(٥ ٣-٤٨) ؛ ٢. بأيّ روح عليهم إنجاز قوانين وتطبيقات اليهوديّة(٦ ١-١٨) ؛ ٣. التّجرّد من الثّراء(٦ ١٩-٣٤) ؛ ٤. العلاقات مع القريب(٧ ١-١٢) ؛ ٥. الدّخول إلى الملكوت من خلال خيار مقرّر ويُترجم بأعمال(٧ ١٣-٢٧). . هو يعطينا عدّة توضيحات حول هذه الشّريعة الإلهيّة لكي نعيشها ونشاركها بشكل أفضل. من بين هذه التّوضيحات، نجد في الطّليعة، التّطويبات.
التّطويبات
تظهر التّطويبات كخلاصة لفكر الله. بودّنا الحصول على التّفاصيل : هذا ما فعله يسوع خلال تبشيراته الطّويلة. فهي تساوي بكثير تفسيراتنا التّقريبيّة. تفرض هذه الكلمة، أكثر من غيرها، إشتراكاً كاملاً،إتّحاداً قويّاً لرغبة الله. لا تتحمّل رسالة التّطويبات التّدبيرات، بل تُعلن ! والّذي يسمعها لا يجادل: يقبلها أو يرفضها. بالفعل، إنّ محتواها أقلّ أخلاقي كروحيّ. لا يعرض علينا الله خياراً. هو يدلّ على الطّريق، طريق السّعادة الوحيد. وليس الفرح على الأرض، الّذي هو ضعيف ومبخّر، لكن من التّطويبة. نطلق على التّطويبة هذه المشاركة لمجد الله في السّماء الّتي هي محتوى فضيلة الأمل. هذه التّطويبة، أو السّعادة الأبديّة، يُمكن عيشها على الأرض. هي معطاة للّذين يعيشون واحدة أو إحدى الطّرق التّسع المقترحة والّتي علينا الطّلب من الله لجعلها نعمة لنا. هي طريق الفقر، الطّيبة،الشّفقة، الطّاعة، الرّحمّة، الطّهارة، السّلام، الإضطهاد، الصّبر. من المفترض على كلّ واحد عيش واحدة على الأقلّّ، حسب هبته. عليه الإقتناع، الإبتهاج، البحث، فوق السّعادة الأرضيّة، عن هذه السّعادة المكشوفة : كونه منسجماً مع المسيح والآب * وفق عظة فرناند دومونت (جمعيّة أسد اليهوديّة) مكتوبة للكتاب المقدّس "إفتح"، الأسبوع الرّابع من الطّقس العادي، الأحد أ، ص.١٠٠٨ 1988 drayaF/ entSarm eL .
سنتوّقف عند أوّل تطويبة، غير مفهومة أكثر الأحيان، حيث يعدنا المسيح بملكوت السّماوات : " طوبى للمساكين بالرّوح فإنّ لهم ملكوت السّماوات"(متى٥ ٣).
طوبى للمساكين بالرّوح
ستتمحور قراءة موجّهة (أو غير موجّهة) لإستعمال جملة الإنجيل هذه، مشتركة مع بعضٍ من غيرها، للوصول إلى الخيار الخاطئ أنّ الفقراء فقط (من جهة الفقر الماديّ) سيدخلون ملكوت السّماوات. أمّا الأغنياء، فهم غصباً موعودون لنار جهنّم. ستترّجم قراءة أخرى" موجّهة" "مساكين بالرّوح" بالغبي، أو أيضاً غبي غير مؤذي. وستترجم ثالثة أخرى، أيضاً، "مساكين بالرّوح" بخداع ومكر. وأخيراً، ستخلط الأخرى الرّوح والذّكاء أو الفكر.
لكن، إنّ الرّوح هو فوق بأكثر من الذّكاء * هذه الأأسطر مستخرجة من م ف الجزء٦، فصل ١٠٨، ص.١٩٦إلى١٩٨. . هو الملك في كلّ ما فينا. جميع الصّفات الجسديّة والأخلاقيّة هي لهذا الملك أهدافاً وخادمات. وهكذا لجميع الأشخاص المخلصين بنويّاً لله يعلمون حفظ الأشياء في محلّها. وبالعكس، حيث البنوّة ليست مخلصة، تأتي إذاً العبوديّة، وتصبح الخادمات ملكات بخلعها روح الملك. عندها تحدثُ الفوضى الهلاك، مثل جميع الفوضويّات.
يتمحور المسكين بالرّوح في هذه الحريّة المطلقة تجاه جميع الأشياء الّتي هي ملذّات الإنسان. لم يعد المسكين بالرّوح عبداً للثّروات :
• هو مسكين بالرّوح الّذي، رغم عدم استطاعته التّخلّي ماديّاً عن الثّروات بتجرّده مثل القدّيس فرنسيس الأسّيزي، يستعملها ليس فقط لنفسه لكن يفكّر أيضاً بالآخرين بظهوره ضالاًّ تجاه الفقراء. لقد فهم هو الجملة الإنجيليّة :" إجعلوا لكم أصدقاء بمال الظّلم"(لو١٦ ٩).
بماله، الّذي يُمكن أن يكون عدوّ روحه بصرفه على الفسق، الشّراهة وعدم الإحسان، يجعل منه خادمه الذي يسهّل عليه درب السّماء، مفروشاً كاملاً بتقشّفاته وبأعماله الخيريّ لويلات أمثاله؛
• هو مسكين بالرّوح الّذي، خاسراً مصادره الكبيرة أو المتواضعة، يعلم حفظ السّلام والأمل، لايلعن ولا يكره أحداً، لا الله، ولا البشر؛
• هو مسكين بالرّوح الّذي، فقيراً ماديّاً، لا يكنّ أيّ شعور كره تجاه الغنيّ، ولا يتمنّى له أيّ شرّ. فقيرأً حقّاً، هو سعيد بفقره ويجد خبزه لذيذاً. هو فرح إذ يهرب من حمى الذّهب، يجهل نومه الكوابيس وينهض مستريحاً ليذهب بكلّ طمأنينة إلى عمله المريح إذ يعمل دون جشع وحسد ؛
• هو مسكين بالرّوح الّذي، أكان غنيّاً أو فقيراً في القرابة أو الزّواج، في الصّداقات، في الخيرات الموهوبة (ثروات ثقافيّة،أعباء عامّة،... )لايتعلّق لأيّ من هذه الثّروات. هذا لا يعني أنّه علينا كره كلّ ما وهبه الله لنا من خيرات، وخصوصاً محبّة القريب. لكن علينا حبّ الأب، الأمّ، الزّوجة والقريب بمقدار ما فرضه الله : "كأنفسنا". بينما علينا محبّة الله فوق كلّ شيء وبكلّ كياننا.
إنّ جميع النّعم الّتي يُعطينا إيّاها الله هي محبّة. أُعطيت بمحبّة. وعلينا استعمال ثروات المحبّة هذه والخيرات الّتي يُعطينا إيّاها الله بمحبّة. والوحيد الّذي لا يستعملها كمعبودات، لكن كوسائل لخدمة الله في القداسة، يُظهر أنّ ليس له تعلّقاً مذنباً لهذه الخيرات. يُطبّق عندها المسكين بالرّوح المقدّس الّذي يتجرّد من كلّ شيء ليكون أكثر حرّا لإحتلال الله القدّوس، الثّروة العليا. إحتلال الله، أيّ إمتلاك ملكوت السّماوات.ً
يفتح المسكين بالرّوح الطّرق إلى التّطّويبات الأخرى
يبدأ يسوع عظته على الجبل بهذه التّطويبة عن الفقر. ليس من الصّدفة إذا كانت تلك التّطويبة الأولى في صفّ التّرتيب. كما يقول القدّيس أمبرواز إنّ فضيلة الفقر هي كأساس التّطويبات الأخرى ومصدرها. الأولى في ترتيب الفضائل، هي ألأمّ ومولّدة الفضائل الأخرى. ويُعطي السّبب : إنّ الّذي يستخفّ يالأشياء الزّمنيّة، يستحقّ الأبديّة. لن يحصل أحد على الملكوت السّماوّي الّذي، مرهقاً من جرّاء جشع الدّهر، لم يعد لديه القوّة للخروج، للخلاص. لهذا لا يتردّد المسيح لقول هذا التّنيبه الخطرالمجازي بعد رحيل الشّاب الغني : "الحقّ أقول لكم إنّه يعسر على الغنيّ دخول ملكوت السّماوات. وأيضاً أقول لكم : لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غنيّ ملكوت السّماوات."(متى١٩ ٢٣-٢٤).
تتطلّب حريّة المسكين بالرّوح هذه تجاه عبوديّة المال، حريّة ضروريّة للوصول إلى ملكوت السّماوات،و فضائل كبيرة. سنحفظ ثلاث منها :
• واضع الفكر الّذي لا يتكبّرولا يُعلن عن نفسه متفوّقاً. يستعمل نعمة الله ويعرف مصدرها، للخير. فقط لهذا ؛
• الكرم في المحبّة، ولأجلها يعرف كيفيّة التّجرّد لإتباع الله. إنّ الثّروة الأكثر حقيقةً وألأكثر محبوبةً غريزيّاً من الخليقة الحيوانيّة هي الحياة. الشّهداء هم جميعاً كرماء في هذا المعنى لأنّ روحهم تعلم كيف تكون فقيرة لتصبح"غنيّة" من الثّروة الوحيدة الأبديّة : الله ؛
• عدالة في محبّة الأشياء الخاصّة. محبّتها،إذ بما أنّها شهادة العناية، هو واجب. لكن عدم محبّتها أكثر من الله ورغبته؛ محبّتها، لكن ليس لدرجة لعن الله إذا اقتلعتها يد الإنسان منّا.
هذه هي أشكال مسكين الرّوح المتعدّدة الّتي تحدّث عنها المسيح وستُحصَل على الملكوت بعدالة. نرى أنّها تتمحور على التّخلّص من جميع الثّروات العابرة للحصول على الثّروات الأبديّة. هذا ما قد فهمه زكّا الصّغير. وأيضاً القديس فرنسيس. نتكهّن حاليّاً وسابقاً الخاتمة الّتي لا يمكن تجنّبها : وبدوري عليّ فهمه.
الفقيّر
يُعرّفُ كلّ قدّيس عن "ميزته". لم يُخطئ معاصرو فرنسيس، وأيضاً الأجيال القادمة. لقد لقبّوه بالفقيّر.
سيسمح لنا حدثاً معروفاً جدّاً من حياة فرنسيس" لتذوّق" أولى خطواته نحو الّتي سيدعوها سيّدة الفقر.
الزّوجة الأكثر جمالاً وألأكثر نبلاً
تتمحور هذه الحلقة في السّنة الثّالثة من إهتدائه. تدور هذه الّلحظة بعد سنة طويلة من أسر فرنسيس في بيروجيا وسنة طويلة أخرى من المرض. بعد هذا، تبنّى فرنسيس عدّة مشاريع متفكّكة، أكثرها شهرةً هي المغامرة للصليبيّة المنتهية في سبوليت منذ غد الإنطلاق. فرنسيس، متغيّر في قلبه، لكن ضعيفاً وغير مستقراً، يجهل بعد دربه.
يحاول رفاقه، القليلي التّصوّف، جذبه لملذّات الحياة الصّاخبة السّابقة * إنّ قسماً من التّحليل والتّعليقات الموجودة في هذه الأسطرمستخرجة من كتاب فالنتان بروتون،mfo، الفقر، المطبوعات الفرنسيسيّة،١٩٤٣،وقد عُدّلَ النّص لضروريّات المبنى. .
فاستسلم مرّة أخرى للخداع ؛ أقام حفلةً وكان، كعادته، الممّون والملك. يروي شيلانو، الّذي يتحدّث عن الذّكريات، أنّ ضيوفه أكلوا وشربوا أكثر من العادة. هندامهم، أقوالهم، فرحهم الفظّ أوحى لفرنسيس، شعوراشمئزاز تجاه هذه التّسليات. عند خروجهم من المائدة، نزلت فرقة الضحوكين الفرحين طرقات المدينة الأسّيزيّة المنحدرة، مغنّيّن، ضائجين، محرّضين الكلاب، مستجوبين المارّة النّادرين، ميقظين المدنيين النّائمين. يسير فرنسيس في المؤخّرة، وفي يده صولجانه المضحك. لكن، شيئاً فشيئاً، بدأ فرنسيس بالإبتعاد. رافعاً عينيه، رأى، بين البيوت القريبة من بعضها، قسماً صغيراً من سماء أومبري مرصّعاً بالنّجوم. كم هي جميلة ! كم هي صافية ! وبينما تبتعد ضحكات رفاقه، غلّف سكون الّليل معطفه. أصبحت روحه صمّاء للضّجة، وبدأ قلبه يغنّي تسبيحاتاً لله. غمرته المودّة الإلهيّة، بشكل قويّ لدرجة أنّه لم يستطع قول شيء، ولا حتّى الحراك. روحه مندفعة بحماس نحو الحقائق الخفيّة لدرجة أنّه بدأ يحتقر كلّ الدّنيوي كباطل ودون قيمة. كم من الوقت بقي واقفاً في تأمّله ؟ فجأةً، أعادته كفّة كبيرة على ظهره، مع مناداة إلى الواقع
: " إيه ! فرنسيس ! اولستَ مغروماً صدفة، للإستغراق بالأحلام هكذا ؟ هل تفكّر بالزّواج ؟" أحدث السّؤال ضحكات كبيرة. بالفعل، عند عدم رؤيتهم لفرنسيس،رجع رفاقه أدراجهم باحثين عنه. هم يحاوطونه الآن،ضائجين أكثر من قبل. فرنسيس،مندهشاً، فتح عينيه، إبتسم وصاح على نفس النّبرة : أجل ! أحبّها، أحبّها،أحبّها، لدرجة لا يمكنكم أن تتخيّلوا ! في الحقيقة اقول لكم : "سأتزوّج بها جميلة جدّاً ونبيلة، لدرجة أن لا أحد يُشبهها ! رحّبت ضحكات جديدة بهذا الإعلان، المطابق لكلّ ما يستطيع فرنسيس قوله. إنطلقوا مجدّداً سويّاً حتّى الباحة الصّغيرة حيث تفرّقوا.
لقد أطلق فرنسيس على هذه الزّوجة الجميلة والنّبيلة الّتي ظهرت له في هذه الّليلة الصّافية إسماً : سيّدة الفقر. سيتعلّق بها وسيكون مخلصاً لها طيلة حياته. سيدعو جميع إخوته لفعل نفس الشّيء، كما تشهد وصية سيينّا : ففي شهر نيسان أو أيّار١٢٢٦، أيّ ستّة أشهر قبل موته، نزف فرنسيس دماً
بغزارة لدرجة أنّ الإخوة اعتقدوا أنّه قالاب الموت. فطلبوا منه بركته والتّعبير عن رغبته الأخيرة. فأتوا بالأخ مبارك وقال : [...]إنّي أبارك جميع إخوتي [...] . وبما أنّني ضعيف، لا أقوى على الكلام. فإنّي أبيّن لإخوتي، مشيئتي، موجزة بهذه الكلمات الثّلاث : [...] وليحبّوا دائماً، سيّدتنا الفقر * و س٤ المقدّس، وليتقيّدوا بها[...]. ولكن لكي لا نخطئ. ليس فرنسيس بمنظّر كما ليس بعالم جدليّ. إنّ الّذي يدفعه" للزّواج" بسيّدة الفقر، ليس بالحبّ الفلسفي- الجدلي- التّقشفّي : الفقربأيّ ثمن، كلّ الفقر، لا شيء إلاّ الفقر، وكلّ هذا للفقر. لا ! بالنّسبة لفرنسيس، ليس الفقر نهاية بحدّ ذاته. بكل بساطة، لقد رأى المسيح فقيراً، معلّماً الفقر، فتبعه. لقد أحبّ المسيح. رغِبَ بأن يكون مثله. عاش فقيراً، وحثّ نسله بالعيش في الفقر ومن الفقر. لقد أصبح الفقر،المثبّت من الله،" كملك وكمعلّم" عروس المسيح الّذي،" افتقر من أجلكم وهو الغنيّ لكي تستغنوا أنتم بفقره(٢كو ٨ ٩)". إذاً، إنّ الفقرهو وسيط الخلاص، ولأجل الحصول على هذا الخلاص، سيقيم فرنسيس ورفاقه عهداً معه وسيلقون يمين الولاء تجاهه.
الفقير أمام الله
سيُظهر انخطاف فرنسيس له معنى حقيقة نعلمها جميعاً، لكن، كبقيّة البشر، نحن غير مكترثين. كان فرنسيس هكذا حتّى تلك الّلحظة. لكن نعمة الله "تُشغله". ُترغمه لطرح مثل هذه الأسئلة : من أنتَ يا ربّ ؟ وأنا، من أكون ؟ ودون خطاب، فهمَ :
• أنّ الله هو الكلّ، وأنّه هو، فرنسيس، لا شيء، إلاّ ما يحلو لله بأن يكون. ليس فرنسيس إلاّ ما يجعل به الله ؛
• أنّ الله يملك كلّ شيء، وأنّه هو، فرنسيس، لا شيء، إلاّ ما يحلو لله بأن يعطيه
• أنّ الله يفعل كلّ شيء، وأنّه هو، فرنسيس، لا شيء، إلاّ ما يتكرّم الله، في حرّيته، عليه، من خلاله، معه...
وعى فرنسيس بتعلّقه المهمّ والمطلق بالله و بالتّالي، بفقره المطلق. نحن أيضاً نعيش كما لو أنّنا نعتقد بأنّنا نملك كياننا، جسدنا، روحنا، نفسنا وقدراتها، بكلّ ملكيّة واستقلال. نستعملها، نفرح بها، نستغلّها بكلّ تسلّط.
نشعر بالفعل بأسيادنا. نحن نعيش، نعمل، نتحرّك ونتزعزع، نذهب ونرجع، نفكّر ونتحدّث بحريّة،ولنا الحقّ. معنا حقّ : فاستقلالنا ليس بإلهام، هو حقيقة. إلاّ أنّه هبة من الله. لقد وهبنا نفسنا لنفسنا. لكن ومع هذا يإعطائه السّلطة على أنفسنا، خالقاُ فينا أسياداً على أنفسنا، أحراراً ومسؤولين، لم يستطع التّخلي عن حقّه الخاص علينا. إذا لم يفعل هذا، فليس أبداً من جرّاءضعفه أو أيضاً من أنانيّة من قبله، لكن من جرّاء عجز من قبلنا. فمنه ومن خلاله، وبسبب مثاليته فينا، لوجوده الحيّ والدّائم فينا، كسبب وجودنا وعملنا، نحن عائشين، نحن نعمل ونحن هكذا. للأسف، لا نفكّرأن ارتباطنا بالله هو الجذر أو مصدر كياننا.
فرنسيس، هو، منذ أن فهمَ ذلك، قَبِلَ بكلّ فرح وضعَ مخلوقه. جعله لقب شرفه. باكتشاف تعلّقه، بتقبّل فقره،بتبشيرفقره، إكتشف فرنسيس وأقرّ أخويّة البشر العالميّة. مثله ومعه، يتقبّل البشر من الله الآب الكائن، الحركة والحياة، حظوة لفقرهم الأساسيّ. ولهذا فهو يدعو جميع البشر، وليس فقط إخوته،لعدم التّكبّر لهبات الله لكن بوضع عزّتهم في صليب يسوع المسيح الّذي،غنيّاً كان،أصبح فقيراً من أجلنا، ومن خلال فقره نُصبح أغنياء :
تأمّل، أيّها الإنسان، عظمة المرتبة الّتي رفعكَ إليها الله : فقد خلقكَ وصنعكَ على صورة ابنه الحبيب، من حيث الجسد، وعلى مثاله هو من حيث الرّوح [...].
فحتّى لو ملكتَ من النّباهة، والحكمة ما مكّنكَ من كلّ علمن ومن ترجمة كلّ لغة، ومن الغوص في دقائق الأمور السّماويّة، لا شيء من كلّ ذلك يُعطيكَ حقّ الإختيار[...]. وكذلك، لو كنتَ الأجمل، والأغنى بين البشر، وحتّى لو كنتَتصنعُ المعجزات الّتي تسمح لكَ بطرد الشّياطين، فكلّ ذلك ينقلبُ ضدّكَ، وليس لكَ فيه شأن، ولا يحقّ لكَ الإفتخار بأيّ شيء منه(٢كو ١٢ ٥).
ولكن، إليكم ما نستطيع أن نفتخر به : ضعفنا،وحملنا، كلّ يوم، صليب ربّنا يسوع المسيح المقدّس * ت ٧. سيعاد موضوع تلك التّوصية، بطريقة أكثر شاعريّة ودراميّة، من خلال القدّيس فرنسيس نفسه، في المشهد الشّهير للفرح الكامل (فيور٨).هذا الفصل المحبوب والمفهوم قليلاً، إذ لا نرى شيئاَ عاديّاً إلاّ صفحة أدب، هو في الحقيقة درس محبّة قويّ عن الصّليب وشكراناً لتعلّقنا المطلق بالله الّذي نتلقّى منه كلّ شيء..(paC M .O ¸neitarG .P 82 te 81 .p¸1928 siraP ¸étilautirips as ¸étilannosrep as ¸esissA' d s i oç n a rF tn iaS) .
الفقير أمام البشر
لنذكر إذاً المشهد الّذي يجري في ١٦ من نيسان سنة١٢٠٧، في صالة إستقبال المطرانيّة. إستدعي فرنسيس من قبل أبيه، بيار برناردوني، للمثول أمام مطران غيدو للإجابة حول سلوكه، تبذيراته ووضع حدّ لما يصفه بيار برناردوني بالجنون. حتّى الآن، تحمّل بيار برناردوني دون تردّد تبذيرات ابنه المجنونة، إذا كانت موجّهة لمجد أرضيّ يمكنه أن ينعكس على العائلة. لكن إعطاء مالاً للفقراء، أخذ خيرات عائليّة لإعادة بناء كنيسة، هذا لا ! أبداً ! إنّه لكثير ! ينتظر بيار برناردوني من هذه المحاكمة أن تُعيد فرنسيس إلى رشده أو، على الأقل، أن تُعيد له ماله الّذي أخذه. لكن، لم يجر سياق المحاكمة حقّاً كما تمنّاه. بعد دفاع أبيه، وضع فرنسيس أمام رجلي هذا الأخير، ليس فقط المال المأخوذ لإعادة بناء الكنيسة، بل أيضاً جميع الملابس الّتي يرتديها. وهكذا، متعرّيّاً تماماً، صرخ بصوت عالٍ :" حتّى الآن، ناديتُ بيار برنادوني أبي ؛ أليوم، أتنازل عن جميع خيراته. من الآن فصاعداً لن أقول أبداً : أبي بيار برناردوني، بل أبانا الّذي في السّماوات !" ليس الأداء إلاّ رمزيّاً. بفعله هذا، تنازل فرنسيس علنيّاً عن كلّ ميراث العائلة. فسارع بتطبيق العقيدة الّتي تلقّاها من الله. متعرّفين الآن قليلاً عن فرنسيس الأسّيزي، نستطيع القول تقريباً أنّنا انتظرنا لمثل هذا الأداء. لكن تُعلمنا نهاية المأساة الوسيلة الّتي يستعملها الله" ليوفي بدينه" الّذي أقامه بحريّة مع خليقته. إزاء أداء تنازل فرنسيس الكامل، نزل المطران غيدو من عرشه، وغطّى الشّاب العاربمشلحه، وجعله تحت حماية الكنيسة. أخيراً، يوفي الله دينه تجاه الفقير من خلال الشّفقة وإحسان القريب : الرّبّ حظ قسمتي وكأسي ؛ أنتَ عم4دةدة قرعتي (مز١٥ ٥). إنّ أداء فرنسيس مكرّر بتكريس من قبل جميع الّذين، في الدّرجة الكهنوتيّة أو الرّهبانيّة، تنازلوا عن العالم لينذروا نفسهم لله ؛ إنّ آية المزمور المنقولة فوق هي متليّة تحديداً كتعبير عن وعود الله المقابلة وللّذين يتكرّسون لخدمته. وفي الحقيقة،كان أداء المطران غيدو، الطّقسي في عادة قبول الإكليريّن لميراث الله، تنبّؤي تجاه فرنسيس ونسله. كان يخمن ويرمز المساعدة الّتي منحتها الكنيسة لخادمها ولجيله المثلّث منذ ثماني عصور. لكن قبل هذا، أكّد بوضوح أنّ الله يحفظ كلمته وإلى ثقة الفقير من خلال شفقة القريب وإحسانه.
وهكذا يعهد الله عنايته تجاه الفقير وبقيّة البشر، الّذين هم أيضاً، في هذا المنظور، يمنحهم ملك الخيرات الأرضيّة وإقامتهم. إذ إنّ خيرات الأرض، أيّ نوع كانت، أليس هو من خلقها، موزّعها لكلّ فرد حسب رغبته. للبعض، يُعطي الوفرة والفائض ؛ للآخرين، اليسر والكفاية؛ وللبعض الآخرأيضاً الّذين هم أولاده(وإخوة لجميع الآخرين)، الفقر، المجاعة، لا بل البؤس ؟... بمنحه للبعض، كإمتياز،المتعة وملكيّة الخيرات الّذي لا يكفّ عن امتلاكها (لأنّ، من يمكنه القول مالكاً لقطعة أرض ؟)هل يفقد سلطة حملهم، لصالح الّذين هم فقراء،" بضريبة"، أو" بمرتّب"، "باستغلال" يمكننا تسميته حقّ دخل أو ضريبة الفقير ؟... ومالكو الميراث الّذين يرفضون أو يهملون دفع هذا العبئ، وبتخفيض رأسمال عقاراتهم المرك من قبل إلاههم. مؤلفّون لصالح الفقير، الآ يقترفون غلطة مزدوجة، غلطة العدالة تجاه الله، غلطة الإحسان والعدالة تجاه هؤلاء المتلقّين، الفقراء ؟
عالمون بهذا، نفهم بشكل أفضل التّهديدات الإنجيليّة العديدة تجاه الأغنياء ذي القلوب القاسية(أي ٢٠ ١٩، ٢٧ ٨ ؛ام٢٣ ٤، ٢٨ ٨ ؛ اش٥ ٨ ،٣٩ ٩ ؛ ار١٥ ١٣؛ لو٦ ٢٤، ١٦ ١٩...)على العكس، لا يوجد أيّ حقّ مفاوض للفقير على خيرات الغنيّ. ليس للفقيرأيّ حقّ للمثول أمام العدالة ؛ لا يمكنه الإلتماس إلاّ العطف، توسّل شفقة مندوب الله كمعروف مجّانيّ. فليس إلاّ بمبالغة يمكننا القول أنّه يطلب الإحسان. بهذا يختلف تعليم المسيح حول شروط الشّيوعيّة الظّالمة. إنّ حقّ الملكيّة الخاصّة ليست موضوع الخلاف. يعترف الله لكلّ واحد حقّ الأستمتاع بسلام من ثمر عمله أو مصنعه، وبنقله لأولاده. إذا أوقرخيرات الغنيّ من ضريبة الفقير، فهو لصالح الواحد والآخر، وليس بكره لأحد. الغنيّ هو ولده كما الفقير. يريد حقّاً تخفيف البؤس الّذي لا مفر منه، وليس بتغيير الوصيّ من خلال تعدّ عنيف لخيرات مكتسبة.
ستقود هذه الحقائق بفرنسيس للنّصح، للتّحذير، لتوصية إخوته بمواقف الفقير أمام البشر. لا يُمنح أيّ حقّ للفقيرعلى خيرات الغنيّ، يبقى الفقير متعلّقاً بالّذي يؤمّن له حاجاته ويخفّف فقره. ويأمر هذا التّعلّق أيضاً موقفه تجاهه. على الفقيرالّذي بحاجة لكلّ شيء وللجميع أن يكون ليّناً، متساهلاً، مسالماً ومتواضعاً. سيكتب فرنسيس في قاعدته :" عندما يذهب إخوتي في العالم، فليمتنعوا عن الخصام، والمشاجرة بالكلام، وإدانة الآخرين. بل فليكونوا وُدعاء، ومسالمين، وبسطاء، وحلماء، ومتواضعين، وليكلّموا الجميع بصدق، كما يليق." * ٢ق٣ ١٠-١١
لنلاحظ في المقطع أنّ فرنسيس لا يعرض على إخوته، التّسامح المتعجرف كموقف. فالتّنازل هو موقف شخص ينزل نحو أدنى مستوى منه. فالفقير،هو، ليس بوسعه التّدني،إذ هومُتدنّى أكثر من الّذي يعينه. ستقود رغبة فرنسيس هذه، بأن يكون، هو وإخوته، في أدنى مراتب المجتمع، فقيراً بين الفقراء، لإختيار إسماً للأخويّة الّتي تشير إلى وضع هذا الفقر. ذات يوم، عند قراءتهم للقاعدة، قاطع قراءة المقطع "حيث كُتِبَ ليكونوا صغاراً وقال :" أريد أن تُدعى أخويّتنا رهبنة الإخوة الصّغار." * ١ ش٣٨ وإذ كانوا في الواقع صغاراً،خاضعين للآخرين * ت ١٩ . كانوا يبحثون عن المكان الآخير والعمل المحتقر الّذي بإمكانه أن يروّج لهم بعض الإهانات، أي موقف عمل أصبح صعباً بسبب متطلّبات العمل نفسه أو قساوة التّقلّبات، لا بلصرامة ربّ العمل المتسلّطة. كان يرى فرنسيس في هذا التّعلّق الشدّيد فرصة نعمة للّذين يهبون الإحسان :" إذهبوا، قال لإخوته * ٢ ش ٧١ ، لأنّ إذا أُرسِلَ الإخوة الأصاغرإلى العالم في هذه الأزمنة، فلكي يستطيع المختارون إتمام لصالحهم ما يساوي تهنئات الله : فما تفعلونه لواحد من إخوتي الصّغار،فكما تفعلونه لي * متى٢٥ ٤٠و٤٥.لقد التحمت آيتا الإنجيل الإثنتين في واحدة من قبل القدّيس فرنسيس، الّذي استبدل الكلمات :" بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار"(آية٤٠) بكلمات الآية٤٥، حيث تسمح الكلمة المقارنة بتطبيق طبق الأصل للإخوة الصّغار. ".
الفقير وجهاً لوجه
يكتب القدّيس بولس للغلاّطييّن : " فإنّه إذا ظنّ أحد أنّه شيء وهو ليس بشيء، فقد غرّ نفسه "(غل٦ ٣).أجل ! بإمكاني تكريم الله، تمجيده، إطاعته، لكن ليكن ليس لأجل مجده الطّاهر وكرامته الاّمتناهية، بل لأنّها الطّريقة الوحيدة ولا بديل عنها للحصول على كمالي وبلوغ تطويبتي. ليس من النّادر أن نحبّ الحقيقة أقلّ من الجهة الّتي اتّخذناها لنا، أيّ نفسنا. ونقس الشّيء، بإمكاني تكريس نفسي لخدمة القريب، قبول لعناته وتأنيباته دزن التّدمّر، وذلك من خلال تصميم سرّيّ يبحث، في الصّبر والخدمة، السّبيل ليكون مقدّراً، محبوباً، مسموعاً وأخيراً، السّيطرة على الآخر. أخيراً،باستطاعتي إنجاز أعمال هذا العالم بتفرّد، بخرافة، بالبحث عن مجد باطل. هناك الكثير، يقول القدّيس غريغوريوس، الّذين يعذّبون أجسادهم بالتّقشّف لكنّهم يحصلون من خلال إماتهم، على الخدمات الإنسانيّة * وعظة١٢ .
يدين القدّيس أغسطين أيضاً بعض النّسّاك الّذين يسعون لجذب اعجاب الشّعب وإحسانه من خلال قدارة ملابسهم. لم يجهل الآباء إذاً غريزة الطّبيعة هذه الّتي تبحث عن نفسها وتتمالك ثانيةً من خلال حسناتها وتحت غطائها. ربّما، يقول القدّيس غريغوريوس، أليس على الإنسان أن يحتاج لعمل جهد مفرط ليتجرّد من خيراته ؛ لكن يتطلّب تجرّد الذّات عملاً كبيراً. من الممكن التّنازل عمّ نملك، بينما تجرّد الذّات هو كبيراً جدّاً. هو المرارة الأكثر مرّةً. لهذا،يُعطي الفقر من الذّات إلى الذّات فقط قيمة حقيقيّة لفقر غيره. يقول القديس بولس : "من الّذي يميّزكَ يا هذا (عن الآخرين) ؟ وأيّ شيءلكَ لم تنله ؟ فإن كنتَ قد نلته فلماذا تفتخر كأنّكَ لم تنله ؟
"(١ كو٤ ٧). يجعل المسيح من هذا النّكران تمهيداً لا مفرّ منه لإتّباعه : "من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني لأنّ من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها ومن أهلك نفسه من أجلي يخلصها "(لو ٩ ٢٣-٢٤). نكران الذّات. فلنحفظ إلاّ هذه الكلمات، إذ إنّها تعبّر عن كلّ شيء. ليس المقصود التّخلّي عمّا نملك، إذ هذا ليس بعد الإحسان والفقر. يجب التّخلي عمّا نحن عليه، لنكون يسوع. نكران الذّات، هو التّخلّي عن عيش حياتنا الخاصّة لندع يسوع يحياا فينا مكاننا. كوني مسيحيّ ، ليس أنا من يحيا، بل المسيح يحيا فيّ.
نفهم إذاً جيّداً أنّ هذا الفقرمن الذّات يعيد الفقر أمام الله المذكور سابقاً.ً لهذا سننهي هذا المقطع المخصّص لفرنسيس حول هذا الموضوع بنقلنا بعضاً من توصياته، الّتي تُظهر لنا كيف علينا أن نكون فقراء في ذاتنا.
شرّ الإرادة الذّاتيّة(ت٢)
قال الرّبّ لآدم : من جميع شجر الجنّة تأكل وإمّا شجرة الخير والشّرّ فلا تأكل منها. إذاً كان يحقّ لآدم بالأكل من ثمار جميع شجر الفردوس ؛ طالما بقي مطيعاً، كان بلا خطيئة. يشير تناول ثمار شجرة الحكمة إلى : إمتلاك الرّغبة الذّاتيّة، الإدّعاء بتكبّر الخير الّذي نفعله، بينما في الحقيقة إنّ الله الّذي فينا هو الّذي ينجزه بالكلمات والأعمال. لكن نفضّل الإستماع إلى تلميحات الشّيطان،فنقضّ الدّفاع : وهكذا يتحوّل ثمر الحكمة إلى ثمر الشّرّ، وعلينا تحمّل العقاب.
كيف نعرف روح الرّبّ(ت١٢)
هكذا يُمكن لخادم الله أن يعرف إذا كان فيه روح الرّبّ : عندما يُحقّق الله بواسطته خيراً ما، لا يتباهى بذلك جسده الّذي يُقاوم كلّ خير بل هو يعدّ ذاته أحقر النّاس وأصغرهم.
فقر الرّوح(ت١٤)
طوبى لفقراء الرّوح، فإنّ لهم ملكوت السّماوات. كثيرون هم الّذين يستغرقون في الصّلوات والفروض، ويكبّدون أجسادهم الكثير من الأصوام والإماتات، ولكنّهم، من جرّاء كلمة واحدة يرون فيها ظلماً لأجسادهم، أو بسبب شيء يُسلب منهم، يثورون حالاً ويضطربون. هؤلاء ليسوا فقراء بالرّوح، لأنّ من كان، حقّاً فقيراً بالرّوح يُبغض ذاته، ويحبّ من يصفعونع على خدّه.
خادم الله المتواضع(ت٢٠)
طوبى للخادم الّذي يردّ إلى الرّبّ الإله كلّ خيراته، فالّذي يحتفظ بشيء لنفسه، يُخفي مال الرّبّ إلهه، ولذلك، فما كان يظنّه له يؤخذ منه.
التّواضع رغم اامدائح والأمجاد( ت٢٠)
طوبى للخادم الّذي لا يعدّ نفسه، عندما يعظّمه النّاس، ويرفعونه، أفضل حالاً ممّا هو عندما يعدّونه حقيراً، بسيطاً ومزدرىً. فالإنسان لا يساوي أكثر ممّا يساوي في عين الله.
والويل للرّاهب الّذي رفعه الآخرون، ولكنه يرفض، بإرادته، أن ينحدر. وطوبى للخادم الّذي رُفِعَ مرغماً، ولكنه ظلّ يرغب في أن يكون تحت أرجل الآخرين.
التّجرّد من الثّروات لخدمة المسيح بشكل أفضل
البند١١.
وهكذا، في روح التّطويبات، سيسهر"الحجّاج والغرباء "في طريقهم نحو بيت الأب، للتّحرّر من كلّ رغبة تملّك وسيطرة * روما ٨ ٢٧ ؛ فاتيكان II، قانون الكنيسة ٧ ٤. .
قد تفاجئ قراءة البند١١. نتكلّم أوّلاً عن المسيح وأمّه، الّلذين عاشا حياة فقيرة ومتواضعة. ومقابل إثبات الفقر هذا، المطلوب من إخوة وأخوات الرّهبنة الفرنسسيسيّة العلمانيّة، عدم النّذر على نفسهم( كما بإستطاعة الإخوة الأصاغر أو راهبات كلارا الأسّيزيّة التّعهّد)، لكن ١/ الإستعمال بتجرّد الثّروات الماديّة و٢/ التّحرّر من كلّ رغبة تملّك وسيطرة ! ؟ وأيضاً، سنبحث طبعاً، في النّصوص المختلفة التّالية،عن شرح وفهم هذه المفارقة التّاريخيّة الظّاهرة، لكن ليس قبل الإجابة على السّؤال : لكن ما هو الفقر ؟
لكن ما هو الفقر ؟
إنّ الفقر هو وضع الّذي لا يمكنه تأمين المصادر الضّروريّة للحياة الماديّة. ندركُ أنّ تكون الحاجة ملموسة تقريباً، الضّرورة إجباريّة تقريباً، صعوبة التّزوّد المنيعة تقريباً ؛ وبالنّتيجة، يوجد درجات في الفقر. يمكننا أن نميّزها في بضع كلمات :
• يستلزم الفقر عدم وجود التّسهيلات المألوفة، الإنزعاج أحياناً، وعدم تأمين الغد. لقد عاش المسيح هذا الفقر في القسم من حياته السّريّة في النّاصرة ؛ |
• يجرّ الفقر العوز لعدم وجود الضّروري.، المسيح، المولود في الفقر الكامل، يُصبح بعدها فقيراً عندما يبدأ مهمّته الخلاصيّة. عندها يقبل من أن ينقصه ما هو ضروري. يثصبح فقيراً. قد وقع في البؤس دون إحسان النّساء الّلواتي تبعنه. لا يتجنّب الحرمان إلاّ بقبوله الفقر الّذي يجرّ هذا الوضع ؛ |
• يُنقِصُ البؤس في كلّ شيء، إنّه العوز التّام. لقد عرف المسيح وأمّه هذا البؤس، هذا النّقص الكامل من كلّ شيء، في الجلجلة. |
إنّ الطّابع المشترك في حالات الفقر الثّلاث هو الحرمان، الّذي هو حاجة ملموسة في أشياء متعدّدة أكثر فأكثر وضروريّة. لكن بما أنّ الفقير لايمكنه تأمينها بنفسه،هو مجبر، لكي لا يتألّم للغاية أو أيضاً الوقوع، الإستعانة بمساعدة الآخر ؛ فيقع بهذا تحت خضوع الّذي يساعده. ونفس الشّيء الّذي يدعو الحرمان فيه للصّبر والتّحمّل، هكذا يبشّر الخضوع التّواضع، العبوديّة، الطّاعة. والحالة هذه، فمن خلال جيل الفضائل هذا بإستطاعة الفقر الحصول على قيمة مقدّسة ؛ إذ، من تلقاء نفسها، لا يجعل الحرمان البالغ حتّى العوز التّام والخضوع حتّى العبودية، الإنسان مستحبّاً لله. بل يمكنهما أن تجلاه مذنباً إذا ولدت، بدل الفضائل، نزعات الشّرّ مثل الحسد، الغضب أو الكره. ليس الفقر الماديّ الّذي طوّبه المسيح، بل الفقر بالرّوح أو في الرّغبة، محبّة الفقر.
وكما لاحظنا، من النّاحية الإقتصاديّة والبشريّة، ثلاث درجات في الحاجة، سنلاحظ، من النّاحية التّقشفيّة والإلهيّة، ثلاثة أنواع من الفقر حسب الرّغبة والرّوح :
• الفقر الماديّ هو خاصّ بالفقراء ؛ فهو، بحدّ ذاته، دون قيمة أخلاقيّة. بإمكانه أن يكون، للخلاص والكمال، عائقاً، إراديّاً إذا تهاون الفقير عمداً للحسد، للغضب أو للتّجذيف ؛ أو غير إراديّ، لأنّه سينقص للفقير التّسليات للصّلاة، للتّثقّف، للمارسة الفضائل. نقول في هذه الحالة الأخيرة أنّ شرف الوضع ضروريّ للحياة الرّوحيّة. مقدّساً من خلال الفقر بالرّوح، يُصبح الفقر الماديّ محموداً ؛ |
• الفقر الواقعيّ الّذي نسميّه إنجيلي، هو الفقر المخصّص لرجال الدّين. يتمحور على التّنازل الإرادي لخيرات الثّروة. هو جيّد ومشكور، ممّا يسهّل الفقر بالرّوح. هو، نسبة للفقربالرّوح كعلامة بالنّسبة للشّيء المعني، كالعنصر المقدّس نسبة للنّعم. لكنّه لا يساوي هو أيضاً إلاّ من خلال الفقر بالرّوح، وهذا عدل ؛ |
• القفر بالرّوح أوبالرّغبة، الفقر بالمحبّة، الّذي طوّبها يسوع، هو الفقر الشّعوري( من القلب، من الإرادة) الّذي عليه تقويم الفقر" الحقيقي" (الخاص بالأشياء)، بالفقراء ورجال الدّين. يحمل الفقر الحقيقي طابعا مزدوجاً الّلذان هما الحرمان والخضوع. الحرمان إذ، من خلال الإحسان، يُحرم الغنيّ : إحسان فائض ، إحسان لا يُحرِمُ واهبه ولا يجبره، لا يستحقّ إسم العمل الرّوحيّ * لا يحدّ لنا الإنجيل"كم يجب إعطاء الفقراء". لهذا، لكي لا نكن عمياناً إذ ليس من هو أكثر أعمى من الّذي لا يريد الرّؤية. رغم ذلك يشير لنا الإنجيل الحدّ الأقصى والحدّ الأدنى : الحدّ الأقصى عندما يقول لنا : " إذهب، بع كلّ شيء لكَ وأعطه للمساكين فيكون لكَ كنز في السّماء"(متى١٩ ٢١) ؛ الحدّ الأدنى عندما يدعونا قائلاً الأشياء التّالية : "أوفوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"(لو٢٠ ٢٥)؛" ليس تلميذ أفضل من معلّمع ولا عبد أفضل من سيّده"(متى١٠ ٢٤) ؛ " الحقّ أقول لكم إنّكم كلّما فعلتم ذلك بأحد إخوتي هؤلآء الصّغار،فبي فعلتموه"(متى٢٥ ٤٠). وهكذا، إذا أعطي لقيصر ما لقيصر( قيصر= الدّولة، أيّ خادم بسيط نسبة لله) كلّ سنة ضريبة دخل+ ضريبة عقارية+ ضريبة تيلفزيونيّة+...+ ضريبة على الثّروة+...، يعطينا هذه القيمة الأدنى لدفعها للمعلّم (المعلّم= إخوتي هؤلاء الصّغار)، إذ إنّ الخادم(الدّولة) لا يُخدَم أفضل من المعلّم( الله).ولكلّ منّا العثور،حسب دعوته طبعاً،عن قيمة الإحسان العادلة،ودفعها سرّاً، بين هذا الأدنى والأقصى. . الخضوع، إذ من خلال تجرّد القلب، يصبح الغني مخضوعاً لله في تملّكه للثّروة واستعمالها : هو مساعده وبديله ؛ ومتعلّقاً بالقريب، الّذي يدير المصالح ويستخدم الضّروريّات. |
الإخوة الأصاغر، راهبات كلارا الأسّيزيّة، العلمانيون الفرنسسيّون.
ثلاث دعوات ؛ نداء واحد للفقر
متأكدّون من هذه التّعريفات، ومن كلّ ما تحدّد منذ باية هذا الفصل، نحن الآن بوسعنا فهم الأجتماع، المغلوطة تاريخيّاً ظاهريّاً، من حياة المسيح الفقيرة والمتواضعة وأمّه الّذي هو الموضوع في البند١١ وبالتّالي، التّجرّد من الثّروات الماديّة الّتي هم مدعوّوين إليها الفرنسسيون العلمانيّون. نحن مدعوّون جميعاً لتقليد المسيح وأمّه في حياتهم السّريّة، حسب وضعنا. نحن مدعوّون وعلينا الإقتداء به. غير أنّ لا يُسمح لنا وهذاغير ممكن، الإدّعاء بإتباعه في تبشيره والآمه دون نداء خاصّ من روحه المقدّس. عندما أراد أناس متزوّجين ترك كلّ شيء فتباع فرنسيس الأسّيزي، قال لهم هذا الأخير :" توقفوا ! لقد إتّخذتم تعهّدات في العالم لا يمكنكم خرقها :
فبدأ فرنسيس بالتّفكير بإلحاح أكثر عن طريقة تُجمع هذين المبدأين، المهمّين الواحد والآخر : الواجب الّذي يُمسك المسيحي في هذا لعالم ونداء المعلّم الّذي يطلب منه الخروج لإتّباعه، حاملاً صليبه. هذا هو أصل الرّهبنة العلمانيّة الفرنسسيّة.
لا يُمكن عيش الفقر الحقيقي الّذي كان محور الموضوع في الأعلى سويّاً من قبل رجال الدّين ،الرّاهبات والعلمانيّين الفرنسسيّن. غير أنّ، إذا ميّزهذا الفقر الحقيقي" خارجيّاً" رجال الدّين في نظر العالم، ليس من الخطأ، ولا من الجرأة، القول أنّ الإخوة الأصاغر، وراهبات كلارا الأسّيزيّة والعلمانيّن الفرنسسيّن يعيشون فقراً بالرّوح مطابق للمسيح وأمّه، وتبعاً للقديس فرنسيس وكلارا الأسّيزيّن. ليسمح لنا هنا بالتّذكير كلمات البد الأوّل من قاعدتنا : في أشكال وتعابير مختلفة، لكن باتّّحاد ومبادلة حيويّين، يريدون( أفراد جميع العائلة الفرنسسيّة) تجسيد اليوم، في حياة ومهمّة الكنيسة، هبة القدّيس فرنسيس الأسّيزي الخاصّة.ّوهكذا، سيكون نذر الفقر( الحقيقي) للإخوة الأصاغر كما لراهبات كلارا الأسّيزيّة، كعلامة مرئيّة للفقر بالرّوح الّذي يفتح الطّرّيق إلى السّماء، إذ هذا الأخيرهو الّذي يفتح حقّاً الطّريق إلى السّماء. بالنّسبة للعلمانيّن الفرنسسيّن، سيُعبّر المعنى المطابق للفقر بالرّوح باستعمال مجرّد للثّروات الماديّة الّتي بإمكانهم امتلاكها. إذ لا يخلو من الأمر أن يكون العلمانيون الفرنسسيون إحتماليّاً أغنياءو /أو في وضع إجتماعيّ راقٍ. لنتذكّر أنّ إثنين من القدّيسيّن الشّفعين الثّلاثة من الرّهبنة الفرنسسيّة العلمانيّة إحتلّوا، وهم أحياء، أعلى مرتبة إجتماعيّة لبلادهم : القدّيس لويس، ملك فرنسا؛ القدّيسة اليزابات، ملكة هنغاريا. لكن على العلمانين الفرنسسين أن يكونوا واعين أنّهم ليسوا إلاّ محافظين، ولا مالكين، للخيرات الّتي حصلوا عليها من قبل الله، وأنّهم حصلوا عليها لصالح أولاد الله. بإختياره بأن يكون فقيراً ومضطهداً، يُلقي المسيح نوراٌ فوطبيعيّة على الذّين هم فقراء ومضطهدين مثله، نوراً تجعل من الفقراء محبوبين كمسيح آخرين. يُصبح الغني عندها وسيط العناية." واجبه هو الإقناع "أنّ الله هو الآب وأنّنا جميعاً إخوة من خلال محبة حيّة. عندها يكون الغنيّ خادم العناية. من جهة أخرى هذا هو الشّرف الأكبر الّي يُعطيه الله للأغنياء. عندها يُفتَح ملكوت الله لجميع من يحبّ الله وقريبهم، إذ لا نصل إلى ملكوت الله من خلال ثروة هذا العالم بل من خلال العدالة الّتي هي في تطبيق القانون( الوصايا العشر) وممارسة المحبّة.
طوبى للرّجل الّذي يتّقي الرّبّ ويهوى وصاياه جيّداً ![...]
يكون المال والغنى في بيته وبرّه يدوم إلى الأبد.
أشرق النّور في الظّلمة للمستقيمين، الرّبّ رؤوف ورحيم وصدّيق.
ما أسعد الرّجل الّذي يرأف ويُقرض ويدبّر كلامه برشدٍ. [...]
لا يخشى خبر السّوء : ثابت قلبه، يتّكل على الرّبّ. [...]
بدّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إل الأبد وقرنه يرتفع بالمجد.[...] (مز ١١١)
لكن ألا يمكن للغنى والفقر أن يكونا إلاّ ماديّين ؟
ليُسمَح لنا بالإجابة على هذا السّؤال بنقلنا أوّلاً شهادة. ثمّ، باكتشافنا هكذا عدّة أشكال الفقر، سنقرأ من جديد قصّة نعمي وكنّتها راعوت، مثال واضح لطيبة الله المعبّر من خلال أولاده. كان هذا في عقد١٩٥٠.كان الأخ ريمون يُحي ثالث نهاية عطلة مخصّصةً للزّوجان. كانت المنطقة ريفيّة ؛ في حاشية الغابة، شُيّدت الخيم القابلة للسّكن. كانت التّطويبات موضوع الّلقاء. بعد بضع لحظات من التّفكير، أرسل الأخ ريمون المشتركين للتّأمّل في الغابة، لكن كزوجان. دعاهم للتّفكير حول تطبيق التّطويبات في حياتهم الزّوجيّة. "بعد هذا التّفكير في الحياة الخاصّة، باستطاعة الرّاغبين نقل شهادتهم للمشتركين الآخرين" قال الأخ ريمون. بعد العودة، عبّر زوجان، بين الآخرين، عن هذا التّأمّل :" لقد بدأنا بالمشي في الغابة، مثل الآخرين، وبعد بضع عشرات الأمتار،إعتقدنا بأ نّنا استعرضنا المشكلة. لم نكن فقراء، ولا مضطهدين، لا متعبين، ولا جائعين للعدالة... باختصار، كانت النّهاية وجيزة : لقد كانت التّطويبات نصّاً إنجيليّاً جميلاً جدّاً لا يخصّنا. وتابعنا النّزهة، بصمت، الواحد قرب الآخر. لكن، بعد برهة، لاحظتُ (يحدّد الزّوج) أنّني أمشي لوحدي. لم تعد زوجتي بقربي. و مندهشاً،إستدرتُ وهنا رأيتها، واقفةً ورائي على بضع خطوات. هي تنظر إليّ، وعينيها حمراوين من الدّموع. هي تبكي، بصمت. رأيتها، ودون أن أقول شيئاً، فهمتُ. فهمتُ أنّنا فقراء، متعبين، جائعين. نحن زوجان ماحلان. لم يكن لدينا أولاداً وليس باستطاعتنا الإنجاب. بسبب هذا العقم، كنّا نحسد الأزواج الّتي لديها نعمة الغنى هذه، وكما لاحظتم، لانتحمّل الأولاد. فمجرّد وجودهم يُغضبنا. وبما أنّنا لا نستطيع الإنجاب، فنحن نعيش عكس التّطويبات. لسنا لطفاء مع أولاد العائلات الأخرى، وهذا الحسد الّذي يعذّبنا لا يجعلنا نملك قلباً طاهراً.
لقد تحدّثنا قليلاً طيلة بقيّة وقت التّأمّل الّذي تلى، لكن القليل الّذي تحدّثنا عنه يُختَصر على الشّكل التّالي : سنغيّر موقفنا تجاه الأزواج الّتي ليها أولاد وتجاه الأولاد نفسهم." وأكّد الأخ ريمون أنّ اعتباراً من عطلة نهاية أسبوع التّطويبات، سيدعى بيت هذا المركز" بيت الله الصّالح"، دائماً مليئاً بالأولاد الفرحين بالتّجمّع.
إنّ الفقر بالرّوح الّذي تحدّثنا عنه حتّى الآن، والّذي خصّصناه بالخصوع والحرمان، هو إذاً فقر روحي. تُظهر لنا هذه الشّهادة أنّ الفقر بالرّوح يُمكن تعبيره، عيشه، في فقر حقيقيّ، الّي ليس له علاقة ضروريّة بفقر ماديّ آخرحتّى ولو، طبعاً، لا يخلو الأمر منه. بإمكانه اتّخاذ أشكالاً متعدّدة : فقر بالعقم لزوجان، فقر في الصحة الجسديّة، فقر بالوحدة أوبالعزوبيّة الغير مكرّسة، فقر في العلاقات الزّوجيّة أو في الأعمال، فقر في البطالة أو غياب العرفان الإجتماعي، فقر بالزّوج المهجور، فقر في موت الّزوج أو ولد، فقر الّذي تغيّرت غلطته لتصبح عقابا، فقر الأب الّي وُلِدَ تعيساً أو أصبح بعدها، فقرالأمّ الّي أصبح ولدها مجرماً وستُنظر لاحقاً كأم المجرم أو الخائن... رغم ذلك، وحتّى فقيراً، نحن دائماً أغنياء بشيء. حتّى في الفقر، يُمكن للفقير أن يكون لديه موهبة، هبات تنقص عند الآخر وبإمكانه مشاركتها : " ليكن الأكبر فيكم كالأصغر والّذي يتقدّم كالّذي يخدم"(لو٢٢ ٢٦). هكذا توزّع طيبة الله الهباتوالخيرات بين أولادها، حتّى يتساعدون ولا يُصبح أحداً محروماً من تطويبة الإحسان والفقر. لكن، إنّ الوسيلة للحصول إذاً على المبادلة وإعادة المساواة بين أولاد الله، ليس عبر العنف الّي ينزع أو الأنانيّة الّتي تردّ، بل عبر التّواضع الّذي يطلب من خلال الصّلاة والتّضحية، أن تنشر العناية الإلهيّة على الواحد والآخر. إنّ طيبة راعوت تجاه حماتها نعمي هو المثال المدهش( سفر راعوت).
راعوت ونعمي
لنرى كآبة نعمي بعد فقدان زوجها وولديها، ولديها الوحيدين. لنسمع كلمات وداعها المثبطة لكنّتيها عرفة وراعوت :" إرجعا كلّ واحدة إلى بيت أمّها، وليصنع الرّبّ إليكما رحمةً كما صنعتما إلى الّذين ماتوا وإليّ..." لنسمع كلماتها المتعبة والملحّة.هي لا تتأمّل شيئاً بعد من الحياة، هي الّتي كانت قبلاً
نعمي الجميلة واليوم أصبحت نعمي البائسة، المنحطّة بسبب الألم. كانت تفكّر بالرّجوع فقط لكي تموت في الأماكن حيث كانت سعيدة أيّام شبابها بين حبّ زوجها وقبلات ولديها. كانت تقول :" إذهبا، إذهبا. لا داعي من الذّهاب مهي... فأنا كميتة... حياتي ليس هنا إنّما هناك فوق حيث هم موجودون. لا تضحّيا بعد اليوم بشبابكما قرب شيء يموت، إذ في الحقيقة، لستُ إلاّ شيء. يستوي عندي كلّ شيء. لقد أمرّني الله... أنا غمّ. وسأكون غمّكم ، وسيثقل على قلبي. وسيطلب منّي الله تكفيراً، هو الّذي فجّعني عدّة مرّات، إذ بإبقائكما معي أنتما الحيّيتين قربي أنا الّتي هي ميتة سيكون أنانيّاً. إرجها عند أمّكما...".
لكنّ راعوت، الموآبيّة، بقيت للتّخفيف من هذا العجز المؤلم. لقد فهمت راعوت أنّه يوجد آلاماً أكبر من الّتي علينا تحمّلها وأنّ ألمها كأرملة شابّة كان أقلّ ثقلاً من ألم الّتي، زيادة على زوجها، قد فقدت ولديها الإثنين. كم يوجد من آلآم في هذا العالم !؟ مثل ألم الّذي ، بسبب مجموعة من الأعذار، وصل لكره الجنس البشري ؛ يرى في كلّ إنسان عدوّاً وعليه الدّفاع عن نفسه ومخافته. إنّ ألمها أكبر من آلآم الأخرى لأنّه ينال ليس فقط الجسد، الدّمّ، الفكر، بل أيضاً الرّوح مع واجباته وحقوقه الفوطبيعيّة، فيجرّها هكذا للهلاك. كم يوجد في العالم، أمّهات دون أولاد وأولاداً دون أمّهات ! كم يوجد أرامل دون أولاد يستطعن مساعدة الشّيوخ الوحيدات ! كم يوجد رجالاً، محرومين من المحبّة لآنّهم جميعاً تعساء، باستطاعتهم خدمة حاجتهم للمحبّة ومحاربة الكره بالعطاء، العطاء، عطاء المحبّة للبشريّة التّعيسة الّتي تتألّم دائماً أكثر لأنّها تكره دائماً أكثر.
إنّ الألم هو صليب، لكنّه أيضاً جناحاً. الحزن يجرّد، لكي يغطّي. طوبى للحزانى، فإنّهم يعزّون (متى٥ ٥). لننظر إل العالم. هو أرض بائرة حيث نبكي ونموت. ويصرخ العالم :" النّجدة !" من فم اليتامى، المرضى، الوحيدين، من الّذين يشكّون، من فم الّذين هم سجناء الحقد من جرّاء خيانة وقساوة. لنذهب نحو الّذين يصرخون ! لنتناسى وسط الّذين هن منسيّن ! لنتشافى وسط المرضى ! لنتأمّل وسط اليائسين ! العالم مفتوح لجميع الإرادات الطّيبة الّتي تريد خدمة الله في القريب واحتلال السّماء : الإتّحاد مع الله والتّضامن مع الّذين يبكون. لنقلّد راعوت قرب جميع آلآمها. لنقل نحن أيضاً لراعوت : " سأكون معك حتّى الموت ". حتّى لو أجاب هؤلاء البؤساء الّذين يعتقدون أنّهم عضال : "لا تدعوني نعمي (الّذي
يعني يا رشيقتي)، لكن ادعوني مُرّة لأنّ القدير أمّرني جدّا"، لنلحّ. وهكذا سيقولون يوماً : " مبارك الله الّذي أخرجني من حزني، من الكآبة، من الوحدة من خلال اهتمامات مخلوق عرف كيف يحوّل ألمه لطيبة. ليباركه الله للأبد إذ كان الخلاص بالنّسبة لي".
إنّ طيبة راعوت،تجاه نعمي، قد أعطت المسيح للعالم لأنّ المسيح ينتسب من داود الّذي ينتسب من يسّى، الآتي من عوبيد، وعوبيد الآتي من بوعز وراعوت. كلّ عمل صالح هو أساس الأعمال الكبيرة الّتي لا نفكّر بها. الجهد الّذي يفعله الواحد ضدّ أنانيّته الخاصّة قد تجرّ مدّاً من المحبّة قابل للإرتفاع، الإرتفاع محافظاً في صفائه الّذي ولّده، وحمله حتّى المذبح، حتّى لقلب الله. * من م ف، الجزء٣، الفصل ٧١،ص. ٤٣٣.
حجّاج وغرباء في طريقهم لبيت الله
إنّ المقطع الأخير من بندنا١١ معرّف بتحديد( في روح التّطويبات) يُضفي لوناً خاصّاً للجملتين التّاليتين.
عندما نقرأ التّطويبات ونتأمّلها، نستطيع أن نندهش من تصريف الأفعال المستعملة. باستثناء تطويبتا الفقر بالرّوح ومضطهدي للعدالة، (حيث الأفعال المصرّفة هي في الحاضر)، تستعمل جميع التّطويبات الأخرى أفعالاً مصرّفة في المستقبل، كما لو أنّ جميع الفضائل المطبّقة اليوم لن تحمل ثمارها إلاّ لاحقاً. يعني هذا المستقبل المعبّر بتصريف الأفعال أيضاً أنّنّا لن ندوم أبديّاً في العالم الحاضر. بل أكثر،نحن في العالم لكن لا ننتمي إلى العالم (يو١٧ ١٦)، كما هم الغرباء. في الحقيقة، نحن غرباء. لكنّنا نحن غرباء "في طريقنا إلى" ، أيّ أنّنا ندخل في حيويّة إلهيّة، تبعاً للطّريق المفتوحة من قبل المسيح، في قلب الآب." يمتلئ" العهد الجديد بتوضيحات تعبّر جيّداً هذه الخصوصيّة المزدوجة بالغرباء والحجّاج، في طريقهم إلى بيت الآب :
ختمتم بالرّوح القدس الّذي هو عربون ميراثنا(اف١ ١٤)، فندعى ونكون أبناء الله(١يو٣ ١). لكن فأنتم أيضاً تظهرون حينئذ معه في المجد(كو٣ ٤). نكون نحن أمثاله، لأنّا سنعاينه كما هو(١يو٣ ١). وهكذا، ما دمنا مستوطنين في الجسد، نحن مغتربون عن الرّبّ(٢كو٥ ٦) ونحن الّذين لنا باكورة الرّوح، نحن أيضاً نئنّ في أنفسنا(رو٨ ٢٣) ولنا رغبة فنكون مع المسيح(في١ ٢٣).
وإنّما مات المسيح عن الجميع لكي لا يحيا الآحياء لأنفسهم فيما بعد بل الّذي مات وقام لأجلهم(٢كو ٥ ١٥).
فلذلك نحرص من أن نرضيه(٢كو ٥ ٩) ولنلبس سلاح الله لنستطيع مقاومة مكابد إبليس، ويوم التّجربة، مقاومته(اف٦ ١١-١).
لكن بما أنّنا لا نعرف اليوم والسّاعة، علينا، حسب تحذير الله، السّهر بمثابرة حتّى في نهاية حياتنا الوحيدة عى الأرض(عب٩ ٢٧)، نستحقّ أن نكون معه على المأدبة العرسيّة ونُعَدّ بين الطّوباويّين (متى٢٥ ٣١-٤٦). حاسبون أنّ آلآم هذا الدّهر لا تُقاس بالمجد المزمع أن يتجلّى فينا(رو٨ ١٨ ؛ ٢تي ٢ ١١-١٢)، منتظرين الرّجاء السّعيد وتجلّي مجد إلهنا العظيم ومخلّصنا يسوع المسيح(تي٢ ١٣)، الّذي سيُغيّر جسد تواضعنا، ليكون على صورة جسد مجده(في٣ ٢١)، الّذي سيجيء ليتمجّد في قدّيسيه ويظهر بالعجب بين جميع المؤمنين(٢تي١ ١٠).
التّحرّر من كلّ رغبة تملّك وسيطرة
قبل تأمّل نهاية هذا البند١١، لنتذكّر ما الّذي تمكّنا من قراءته في الفصل السّابق : إنّ أساس كلّ علاقة أخويّة ، يوجد الوعي أنّنا جميعاً أبناء أب واحد الّذي ندين له كلّ شيء. عندما يفقد الإنسان هذا الوعي، عندها يُصبح شرهاً ومتسلّطاً لأنّه يخاف. للمحافظة على حياته، يريد الإدّخار لكي لا ينقصه ، والسّيطرة على الآخرين لكي" يبقى حرّاً". لعدم تكرار ما قيل في التّحليل الحاضر، أدعوك للقراءة مجدّداً ال § بإفادة للفصل السّابع المعرّف" تجد الأخويّة أصلها في أبوّة الله" ،" الكون أخاً، هو اهتداء غريزتنا المتسلّطة الإرادة الخدمة" و" الخدمة، هو التّبادل بثقة".
يتحدّث آخر بندنا ١١ حول التّحرّر من كلّ رغبة تملّك وسيطرة، كما لو كانت مجرّد الرّغبة تسمّم وحتّى تسجن الّذي هو هدفها. في الحقيقة، هذا صحيح تماماً، ولدرجة أنّ الله نفسه، في الوصيّتين * تشطر الوصيّة العاشرة وتكمّل التّاسعة، الّتي تتناول شهوة الجسد. وهي تنهى عن اشتهاء مال القريب، أصل السّرقة، النّهب والغشّ، الّتي تحرّمها الوصيّة السّابعة. إنّ" شهوة العيون"(١يو٢ ١٦) تقود إلى العنف والظّلم الّلذين تحظّرهما الوصية الخامسة. وأصل الجشع كالزّنى، هو في عبادة الأصنام الّتي تنهى عنها الوصايا الثّلاث الأولى من الشّريعة. ت م ك ك ٢٥٣٤. التّاسعة والعاشرة من الوصايا العشر، يأمرنا بعدم الإشتهاء، فالإشتهاء ليس إلاّ هذه الرّغبة الّتي تسجن :
" لا تشته بيت قريبكَ. لا تشته إمرأة قريبكَ ولا عبده ولا أمّته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً ممّا لقريبكَ"(خر٢٠ ١٧). سنتوقّف إذاً على هذه الوصيّة طالما هي ظاهرة لدرجة أنّ قاعدتنا تعيدنا إليها. يُعطي الله لكلّ واحد ما يحتاجه. هذه هي الحقيقة. ما هو الّذي ضروريّاً للإنسان ؟ البذخ ؟ الأراضي الّي لا نستطيع عدّ حقولها ؟ المآدب الّتي نرى، بعد الشّفق، طلوع الفجر ؟ لا. لا شيء من كلّ هذا. إنّ الّذي هو ضروريّ للإنسان، هو سقفاً، خبزاً، ثياباً ؛ باختصار، ما هو ضّروري للعيش. لننظر من حولنا :
من هم الأكثر فرحين وبصحّة جيّدة ؟ من ينعم بشيخوخة هادئة وصحيّة ؟ الفرحون ؟ لا. لكن الّذين يعيشون بشرف، يعملون ويخفّفون من رغباتهم. ليس لديهم سمّ الفسق ويبقون أقوياء، فلا سمّ المآدب فيبقون متوقّدون، ولا سمّ الحسد فيبقون سعداء. بينما الّذي يرغب دائماً بالمزيد، يقتل سلامه ولا يفرح. كلّما شرب أكثر، كلّما عطش أكثر. كلّما أكل أكثر، وكلّما جاع أكثر. له شيخوخة مبكرة. هو محروق من الحقد والتّعديات. باستطاعتنا وضع سويّاً الوصيّة بعدم السّرقة ووصيّة عدم الرّغبة بما يمتلكه الآخر. الحقيقة أنّ الرّغبة المفرطة قد تدفع للسّرقة. فلا يوجد إلاّ خطوة صغيرة بين الواحد ولآخر.هل نستطيع القول، أنّ الرّغبة محرّمّة لهذا الحدّ ؟ لكي لا نذهب أبعد من ذلك. إنّ أب العائلة، الّذي يعمل في الحقول أو في المصنع، يرغب بتأمين الطّعام لأولاده، فلا خطيئة في ذلك. يؤدّي واجباته كأب. لكن، بالعكس، إنّ الّذي لا يرغب بشيء واحد إلاّ بمتعة أكبر ويسرق ما الّذي يملكه الآخر للإستمتاع أكثر، فهذا يخطي. الحسد ! لماذا ؟ ما هي رغبة خير الآخر إلاّ الجشع والحسد ؟ يفصل الحسد عن الله ويتّحد مع إبليس. إنّ الأوّل الّذي رَغِبَ بخير الآخر هو الشّيطان. كان أجمل الملائكة، وكان ينعم بالله. كان بوسعه الإكتفاء بذلك. حَسِدَ الله وأراد، هو، أن يكون الله، فأصبح الشّيطان، أوّل شيطان. المثل الثّاني : كان لأدم وحواء كلّ شيء، يتمتّعان بالجنّة الأرضيّة،يتمتّعان بصداقة الله، سعيدين بهبات النّعم الّتي أعطاها الله لهما. كان بوسعهما الإكتفاء بذلك. حسدا الله لمعرفته بشجرة الخير والشّر وطردا من عدن(تك٣ ٢٣).
كانا الخاطئين الأوّلين. المثل الثّالث : قاين حسد هابيل بسبب صداقته مع الله. وأصبح أوّل مجرم(تك٤ ٨). مثال آخر : مريم، أخت هرون، حسدت أخيها وأصبحت أوّل برصاء في تاريخ إسرائيل(عد١٢ ١٠). باستطاعتنا المتابعة خطوة خطوة عبر كلّ حياة شعب الله، وسنرى أنّ الرّغبة المفرطة جعلت، من الّذي امتلكها،
خاطئاً وجرّت البلد إلى العقاب. هذا لأنّ خطايا الأفراد تتكدّس وتجرّ إلى عقاب البلد. هنالك مثل الحبّات، الحبّات، حبّات الرّمل الّتي، المتكدّسة طوال العصور، تحدث إنهياراً تغمر البلد ومن يوجد فيه.
لنقلّد العصافير في حرّيتها ورغباتها. لننظر إليها وسط الشّتاء. هناك القليل من الطّعام. لكن هل تهتم في الصّيف لتخزين المونة ؟ لا. تثق بالله. تعلم أنّها تستطيع دائماً إلتقاط دودة صغيرة، حبة ، قطعة خبز، فضلات، ذبابة على الماء لحوصلتهم. تعلم أنّه يوجد دائماً مدفئة دافئة أو قطعة صوف لإسكانها في الشّتاء. تعلم أيضاً، أنّ عندما يحين الوقت للتّزوّد بالعلف لأعشاشها وطعاماً أوفر لصغارها، سيكون هناك علفاً طيّباً في الحقول، طعاماٌ شهيّاً في البساتين وعلى الثّلمات، وأنّ الهواء والأرض مملوؤان بالحشرات. وهي تغنّي بلطف : "شكراً، أيّها الخالق، لما تعطينا وستعطينا إيّاه" مسرعة لإطلاق التّسبيحات بأصوات مرتفعة. هل هناك مخلوق أكثر فرحاً كالعصفور ؟ ومع هذا ما هو مقدار ذكائه مقارناً للذّكاء البشري ؟ غبارة أمام جبل. لكنّه يُعطينا المثال. في الحقيقة، إنّ الّذي يملك فرح الغصفور، يعيش دون رغبة فاسدة. يثق بالله ويشعر بالآب فيه. يبتسم للنّهار الّذي يطلع وللّيل الّذي يهبط ، فهو يعلم أنّ الشّمس هي صديقه وأنّ اللّيل هو حاضنه. ينظر إلى النّاس دون حقد ولا يخشى انتقامهم، إذ هو لا يؤذيهم. لا يخاف على صحّته ولا على نومه، فهو يعلم أنّ الحياة الشّريفة تُبعد الأمراض وتؤمّن راحة طيّبة. وللختام، لا يخشى الموت فهو يعلم أنّه كان صالحاً، فلن يحصل إلاّ على ابتسامة الله. الملك يموت أيضاً وكذلك الغنيّ. لا يوجد صولجان يُبعد الموت، ولا المال يشتري الأبديّة. في وجود ملك الملوك وسيّد الأسياد، لا تصبح الأكاليل إلاّ دعابات. فالتّاج الوحيد الّذي له قيمة، هي حياة حيّة حسب الإرادة الإلهيّة. * م ف الجزء الثّاني، الفصل ٩٨، ص.٥٧٧.
البند١٣
سيتصرّفون من خلال معنى الأخويّة للإعتبار بفرح كلّ البشر كأمثالهم، خاصّةً الأكثر تواضعاً، فيبحثون من أجلهم، لخلق أوضاع حياة جديرة لمخلوقات مغفورة خطاياها من قبل المسيح. * ١ق ٩ ؛ متى٢٥ ٤٠
يتطلّب استقبال هذا القريب، خاصةً هذا القريب نجد صعوبة في محبّته، تجرّداً من قبلنا، قبول فقر ما. سيعاش هذا التّجرّد تحت عدّة وجوه : التّجرّد من وقته، الغالي جدّاً لإنجاز أشياءً آه كم هي مهمّة أكثر من استقبال" صديق مزعج"؛ تجرّد المتعة من التّواجد دائماً بين أناس من" نفس الطّبقة" ... في قاعدة ١٢٢١، يختصر فرنسيس في بضع كلمات مداخل حالة الفقر هذه ومخارجها الضّروريّة لإستقبال القريب :" فليجتهد جميع الإخوة في الإقتداء بتواضع ربّنا يسوع المسيح وبفقره وعليهم أن يبتهجوا عندما يعيشون وسط أشخاص محتقرين ومزدرين وسط الفقراء والضّعفاء والمرضى . * ١ق٩ ١-٢ "
البكر ما بين الإخوة
لقد كشف لنا الفصل الأوّل من كتاب التّكوين هذا أنّ اله هو محبّة وأنّه خلقنا بمحبّة. خلقنا على صورته : محبّة. خلقنا لكي نحبّ. لهذا، وقبل ولادته، إنّ الإنسان مهيّاً لأن ينقل صورة ابن الله المتأنّس-" صورة الله غير المنظور"(كو١ ١٥) حتّى يكون المسيح بكراً ما بين جمّ غفير من إخوة وأخوات * حسب ت م ك ك ٣٨١. محبّين لله وقريبهم. لهذا أليس من المدهش برؤية قاعدتنا تدعو العلمانييّن الفرنسسيّن لإستقبال كلّ إنسان من عبر القلب، إذ من خلال القلب نخدم الله. أمّا متطلّبات القلب، الضّروريّة لهذا الإستقبال، هي محدّدة. على القلب ان يكون متواضعاً، أيّ عليه التّنازل، والتّواجد طوعاً تحت وضعيته، تماماً مثل
المسيح الّذي لم يتمسّك بغيرة بالمكانة الّتي تساويه بالله بل تنازل، ليكون متساوياً مع البشر. على القلب أن يكون أيضاً لطيفاً، أيّ قلباً يتحدّث، يُحبّ ويعمل تجاه الآخر بنفس هذا التّهذيب المرهف الّذ يجلب السّلام والفرح للآخر. فأيّ لطف برهن عنه سيدنا يسوع المسيح تجاه زكّا الصّغير، هو الّذي كان في صفّ مجتمع من قبل الطّاهرين والكاملين : يا زكّا أسرع انزل فاليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك. لكن، التّواضع والّلطف هما فضيلتان صعبتان للعيش عند الإنسان، فكم من السّهل السّيطرة على الآخر، والإعتقاد بأنّه كامل والحكم على الآخر. لا يكشف لنا المسيح الحقيقة : من أراد أن يتبعني١/ فليكفر بنفسه٢/ ويحمل صليبه كلّ يوم٣/ ويتبعني(لو٩ ٢٣).
يمرّ درب الكمال عبر الصّليب. لا يوجد قداسة دون تنازل ودون معركة روحيّة. يتضمّن التّقدّم الرّوحي التّقشّف وإماتة الجسد الّلذان يؤدّيان تدريجيّاً للعيش بسلام التّطويبات وفرحها.
كهبة من الله وصورة المسيح
كم نحبّ جدّاً" مسكننا الصّغير"، "الأنا الصّغير"، مع عاداته الصّغيرة، تأكيداته الصّغيرة، صلواته التّسبيحيّة الصّغيرة الخاصّة جدّاً :" اللّهم إنّي أشكركَ لأنّي لستُ كسائر النّاس الخطفة الظّالمين الفاسقين ولا مثل هذا العشّار... "(لو١٨ ١١)، بينما يعلن يسوع لنفس هذا العشّار: اليوم ينبغي لي أن أمكث في بيتك ! نحن دائماً مسرعون لطرد القريب بدل استقباله، وإنّ الأسباب المنحطّة لهذا الإستبعاد متعدّدة. إلاّ أنّ الّتي تفوق جميع الأخرى تستطيع أن تُختصر بهذا الشّعور البغيض والعفويّ أنّه ليس مثلي. أنا أبيض وهو أسود. أنا مسيحي وهومسلم. أنا غنيّ وهو فقير. أنا فقير وهو غنيّ. أنا مثقّف وهو غبيّ. أوليست تقويمات مكروهة ؟ إذ هل اختار فرد ما في العالم، يوماً، مكان ولادته ؟ (أوروبا، أفريقيا، آسيا...)؟ أو أيضاً العائلة الّتي ولد فيها ؟ (عند أمراء هذا العالم، عند البدو،...)؟ أو أيضاً ديانة أبائه ؟ مسيحيّة، مسلميّة يهوديّة،...)؟ إنّ الله هو أب جميع البشر. لقد خلق الله جميع البشر على صورته، على شبهه، أيّ بطبعه الخاصّ. جميعاً من أب واحد، جميعاً، نحن مميّزون، مختلفون عن الآخرين. أول هذا صحيحاً، على مستوى آخر، في أخويّة : يُظهِرُ جميع الأولاد من أب واحد وأمّ واحدة تشابهات الواحد عن الآخر، لكن، رغم ذلك، هم جميعاً مختلفين عن بعضهم البعض.
تدعونا قاعدتنا لإستقبال القريب، المختلف دائماً، كهبة من الله. يختصر فرنسيس جيّداً، في وصيّته المبادرة الإلهيّة الّتي هي أساس هذه الهبة :" بعد ما أعطاني الرّبّ إخوةً..." لكن ما هي الهبة، إلاّ معروفٍ، عطيّة، سخاء، تقدمة، هديّة، باختصارن شيء صالح لي ! إذاً لا يُمكن استقبال القريب كعدوّ، بل كهبة يمنحني إيّاها الله لأنّ، في هذا القريب، يوجد حتماً صورة المسيح. فعليّ البحث عنها ورؤيتها كما يرى أب السّماوات ملامح عليّ البحث عنها ورؤيتها كما يرى أب السّماوات ملامح إبنه في كلّ رجل.
خلق أوضاع حياة جديرة للمخلوقات المغفورة من المسيح
تبدأ الأسطر الأخيرة من البند١٣ بالتّذكير أنّ معنى الأخويّة الّذي ينصّ بالإعتبار بفرح كلّ فرد كمساو له. لنذكّر، دون زيادة، ما الّذي استطعنا اكتشافه في الفصل السّابق : تجد الأخويّة أصلها في أبوّة الله ؛ والكون أخاً، هو اهتداء غريزتنا بالسّيطرة لإرادة الخدمة. لكن نخدم الله في خدمتنا للقريب ؟ بالرّدّ لله جميع ما أخذه العالم، الجسد، الشّيطان من الله. بأيّة وسيلة ؟ من خلال المحبّة. المحبّة الّتي لديها ألف طريقة للممارسة وتعرف نهاية فريدة : نثر المحبّة. العالم مليء بالجائعين، بالسّجناء، بالبكّائين، بأناس مساكين عراة، بغرباء، بمرضى، وتأتي التّعاسة اليوميّة لتصبح حيطانأً مشيّدةً بين نفوسهم ورؤية خالقهم الطّوباويّة، الرّحيمة والمخلّصة. خلق أوضاع حياة جديرة للمخلوقات المغفورة من المسيح، هو إطعام الجياع، إسقاء العطشى، إلباس الّذين هم عراة، إستقبال الغريب، زيارة المرضى أو السّجناء، الكون رحيماً تجاه الّذين يبكون، تحمّل المزعجين... الله هو رحمة لأنّ الله محبّة. على خادم الله أن يكون رحيماً للإقتداء بالله. يستعمل الله الرّحمة لجذب إليه أولاده الضّائعين. وعلى خادم الله استعمال الرّحمة كوسيلة لجلب الأولاد الضّائعين لله.
إطعام الجياع، هو واجب معروف ومحبّة. هو واجب تقليديّ. نحبّ الله بإعطائنا خبزاً للّذي هو جائع كذكرى حين قد أشبع هو الإنسان مرّات عدة من خلال العمل العجائبي المستمّر من الحبّة الّتي تكبر، من عطاء الأرض الخاصّة للزّرع، من نظام الهواء، الحرارة والأمطار الّتي يعطينا إيّاها. كلّ هذامعطى من طيبة الله الطّاهرة. إطعام الجائعين هو صلاة معروف لله. هوالإقتداء بالآب الّذي خلقنا على
صورته وشبهه وعلينا إتّباعه في أعمالنا.
إسقاء العطشى. المياه هي لله. هي للجميع. لنعي إعطاءها للّذين هم عطشى. لعمل لا يكلّف الكثير، لا يفرض أي مجهود إلاّ تقديم فنجانً أو إبريق، سيكون هناك مكافأة في السّماء. إذ ليست الماء، بل عمل الإحسان الّذي هو كبير في نظر الله.
إلباس الّذين هم عراة. إذا نظرنا إلى العالم الواسع، باستطاعتنا رؤية في كلّ مكان ناساً عراة أو لابسين ثياباً رثّةً. ينظر هؤلاء النّاس، مذلولين، الأغنياء يمرّون بثيابهم الفاخرة. إذلال وطيبة عند الّذين هم صالحين ؛ إذلال وكره عند الّذين هم أقلّ طيبة. لنساعدهم في إذلالهم، بجعلهم أفضل إذا كانوا طيّبين، بتدمير الكراهية عبر محبّتنا إذا كانوا أقلّ طيبة. لكي لا نقل :" ليس لديّ إلاّ لنفسي". كما مثل الخبز، لدينا دائماً شيئاً ما أكثر من الّذين هم متروكين تماماً. حتّى من لباس قديم، شرشف قديم، من الممكن عمل شيء جيّد. لنعلم كيف نعطي كما الله يعطينا. لنعطي باسم الله، دون الخوف من أن نصبح عراة. من الأفضل الموت من البرد لكوننا تجرّدنا لصالح شحّاذ وعدم جعل قلبنا يتجمّد، حتّى تحت ثيابٍ دافئة، وذلك لعدم الإحسان. لنعلم أنّ دفء العمل الّذي فعلناه هو أنعم للّذي يتلقّاه كم من معطف من صوف طاهر، فيتكلّم جسد الفقير الّذي اكتسى ويقول له :" طوبى الّذي كساني".
إستفبال الغريب. لماذا التّفكير، عند وجود مسافر أو غريب :" وإذا كان لصّاً أو مجرماً ؟" هل نتمسّك بثرواتنا لهذه الدّرجة فيجعلنا كلّ غريب يمرّ نرتجف خائفبن عليها ؟ هل نخاف جدّاً على حياتنا لدرجة أنّنا نخاف للتّفكير من الحرمان منها ؟ وماذا ؟ نخاف في المّارّ لصّاً ولا نخاف من الضّيف المظلم الّذي يسكن في قلبنا ويسرق منّا ما هو الّلا بديل عنه ؟ الا يوجد إلاّ خير الغنى والوجود ؟ أو ليست الأبديّة أغلى لدرجة أنّنا ندع أنفسنا تسرق وتقتل عبر الخطيئة ؟ لماذا رؤية الّلص في كلّ مسافر ؟ نحن إخوة. ينفتح البيت للإخوة المّارّين. أليس المسافر من دمنا ؟ آة بلى ! هو من دم آدم وحواء. أليس أخينا ؟ وكيف لا ؟ لا يوجد إلاّ آب واحد : لقد أعطانا الله نفس الرّوح، كما يُعطي الب نفس الدّم لأولاده من نفس السّرير. هو فقير ؟ لنعمل بطريقة حتّى لا يُصبح فكرنا أفقر منه، المحروم من صداقة الله. ثيابه
ممزّقة ؟ لنعمل بطريقة كي لا تُصبحَ روحنا ممزّقة أكثر من جرّاء الخطيئة . مظهره مقرف ؟ لنعمل بطريقة أن لا يُصبح مظهرنا مقرفاً أكثر في نظر الله. يتكلّم لغة غريبة ؟ لنعمل بطريقة أن لا تُصبحَ لغة قلبنا غير مفهومة في مدينة الله. لنرى في المسافر أخاً. نحن جميعاً مسافرين في طريقنا نحو السّماء ونحن جميعاً نقرع أبواباً هي على طول الطّريق الّتي تؤدّي إلى السّماء. وكلّ مرّة نفتح أبوابنا وذراعينا مسلّمين بطريقة لطيفة كأخٍ على مجهولٍ، بتفكيرنا بالله أنّه يعرفه، لنكن واثقين أنّ الله يجعلنا نجتاز أميالاً عدّة على الطّريق الّتي تؤدّي إلى السّماوات.
زيارة المرضى. في الحقيقة، بما أنّ جميع البشر مسافرون، فهم أيضاً مرضى. أوّلاً، لكي لا نخاف من الأمراض الجسديّة. يُمكن للرّوح أن يكون فاسداً، ليس من جرّاء أشياءٍ ماديّة بل من أشياء روحيّة. إذا عالج أحد ما أبرصاً، لا يُصبح روحه أبرصاً، لكن، على العكس، بسبب الإحسان الّذي يمارسه بطوليّاً حتّى الإنعزال في أودية الموت والأمراض، شفقة بأخيه، عندها تسقط جميع خطاياه. لأنّ الإحسان هو غفران الخطيئة وأوّل التّطهيرات. والأمراض الأكثر خطورة ليست أمراض الجسد لكن أمراض الرّوح : هي أمراض غير مرئيّة الأكثر مميتة. بشكل غريب، هي لا تثير الإشمئزاز ؟ ! لا يوحي الجرح الأخلاقي النّفور ! لا تثير عفونة الشّرّ الغثيان. ! لا تُبعد غنغرينة أبرص روحيّة ! لننطلق دائماً من الفكر :" ما الّذي أريدُ أن يفعلوه بي إذا كنتُ مثله ؟" ولنفعل كما نريد أن يفعلوه بنا.
زيارة السّجناء. حتّى ولوكان جميع السّجناء لصوصاً ومجرمين، ليس من العدل أن نصبح لصوصاً ومجرمين بنزعهم أمل الغفران عبراحتقارنا. السّجناء المساكين ! لا يجرؤن رفع أعينهم نحو الله، مرهقين بسبب أغلاطهم. في الحقيقة، توثق السّلاسل روحهم أكثر من أرجلهم. لكن الويل إذا يئسوا من الله ! سيزيدون مع جريمتهم تجاه القريب، جريمة الياس من السّماح. فلتكن محبّة الإخوة على المحكوم والسّجين. سيكون نوراً في الظّلمات، سيكون صوتاً، ستكون يداً تدلّ إلى الأعالي بينما صوتاً يقول :" لتقل محبّتي أنّ الله يحبّك أيضاً. هو الّذي وضع في قلبي هذه المحبّة لكَ، أخي البائس"،ويسمح النّوربلمح الله، الآب المليء رحمة.
دفن الموتى. إنّ تأمّل الموت هو مدرسة الحياة. كما قال الله، أنتَ من تراب ومن التّراب تعود. ومع هذا، وبمجرّد أنّ هذا التّراب قد غطّاه الرّوح وأحياه، يجب الإعتقاد أنّه تراب مقدّس بطريقة لا
تختلف عن الأشياء الّتي لمست بيت القربان. من خلال أصلها الوحيد، تبثّ الرّوح الجمال للمادّة، وبسبب هذا الجمال الّذي يأتي من الله، يتجمّل الجسد ويستحقّ الإحترام. نحن معابد، وكما نحن عليه نستحقّ التّكريم، كما كُرّمت دائماً الأماكن حيث سكن بيت القربان. لنحسن إذاً للموتى براحة مكرّمة بانتظار القيامة. لكنّ الإنسان ليس فقط جسداً ودماً. هو أيضاً روحاً وفكراً. تتألّم الأرواح أيضاً وعلينا تلبية حاجاتهم برحمة. لنعطي خبزالرّوح لجوع الأرواح. يتناسب تثقيف الّذين لا يعرفون الله، في التّرتيب الرّوحي، لإشباع الجائعينن وإذا أعطينا مكافأة لخبز معطى لجسد يتألّم لكي لا يموت اليوم نفسه، فما هي المكافأة الّتي ستُعطى للّذي يُشبعُ روح الحقائق الأبديّة، بإعطائه الحياة الأبديّة ؟ لكي لا نكن أنانيّون من الّذي حصلنا عليه. لقد أُعطيَ لنا مجّاناً ودون حدود. لنعطه دون أنانيّة إذ إنّها من الله مثل مطر السّماء، يجب إعطائها كما أُعطيت لنا. لنعط الإصلاح الصّافي والنّافع من الصّلاة للأحياء وللموتى الّذين هم عطشين للنّعم. لا يجب رفض الماء للحناجر الجافّة. ما الّذي يجب إعطائه إذاً لقلوب الأحياء القلقة ؟ صلوات، صلوات، مثمرة لأنّها ملهمة من المحبّة وروح التّضحية. لنصلّي من خلال تضحياتنا أكثر من شفاهنا وسنعطي الرّاحة للأحياء وللموتى بفعلنا عمل الرّحمة الرّوحيّة الثّاني. فيخلص العالم عبر صلوات الّذين يعرفون كيف يصلّون، أكثر من حروب ضائجة، العديمة الجدوى والمجرمة.
إلباس الّذين روحهم عراة. وكيف إلباس الّذين روحهم عراة ؟ بمغفرتنا للّذين يوسيؤنا إلينا. فالأذيّة هي ضد الإحسان. والّذي ضدّ الإحسان يجرّد الله. الّذي أساء يكون قد تجرّد. وحدها مغفرة الّذي أساء إليه تُلبسُ من جديد هذا العري، لأنّه يعطيه الله من جديد. ينتظر الله، لكي يغفر، لكي يسامح المسيء. المغفرة أيضاً للإنسان الّذي أُسيءَ، كما للّذي أساء للإنسان ولله. لكي لا نكن عمياناً وخبثاء. لا يوجد أحد لم يُسىء إلهه. لكنّ الله يسامحنا إذا سامحنا القريب، وسيسامح القريب إذا سامح الّذي أُسيءَ. سيُفعل بنا كما سنفعل نحن. لنسامح، وبالتّالي، إذا كنّا نريد السّماح، والإستمتاع بالسّماء بسبب الإحسان المُعطى. الكون رحيم تجاه الّذين يبكون . إنّهم يبكون، الّذين قد جرحتهم الحياة، الّذين قد انكسر قلبهم في مشاعرهم. لكي لا ننحبس في سكوننا مثل قلعة. لنبكي مع الّذين يبكون، مواساة الّذين هم حزانى، ملىء
فراغ الّذي هو محروم من أهل إثر وفاة. آباء مع اليتامى،، أولاد مع الأهل، إخوة للآخرين. لنحب. لماذا لا نحبّ إلاّ الّذين هم سعداء ؟ فلديهم سابقاً حصّتهم من الشّمس. لنحبّ الّذين يبكون. فهم أقلّ المحبّين للعالم، لكنّ العالم لا يعرف قيمة الدّموع. لنحبّهم حتّى ولو استسلموا في حزنهم. لنحبّهم، وأكثر أيضاً، إذا أثارهم الحزن. فلا عتابات، بل لطف لإقناعهم في آلآمهم عن فائدة العذاب. يمكنهم، من خلال وشاح الدّموع، رؤية وجه الله بطريقة مشوّهة فيحوّلونها للتّعبيرعن شعور لإنتقام فظيع. لا.لكي لا نخاف ! لا، يست إلاّ هلوسة تأتي من حمّة العذاب. لنساعدهم لكي تهبط الحمّة. ثمّ، عندما يهبط أعلى الحمّة ويأتي الإنهيار وذهول البليد من الّذي قد عانى عاقبة الجرح، لنبدأ من جديد بالتّحدّث عن الله، كشيء جديدن بلطف، بصبر.ثمّ لنصمت. لن نلحّ... فالرّوح تعمل بنفسها. لنساعدها بملاطفات وصلوات. وعندما تقول لنا :" إذاً ألم يكن الله ؟ "، لنجيب : "لا هو لا يريد أذيّتكَ، لأنّه يحبّكَ" . وعندما تقول الرّوح :" لكن أنا اتّهمته" ، لنقل :" لقد نسيها هو لأنّها كانت الحمّة" . وعندما تقول :" إذاً أريده" ، لنقل : "ها هو ! هو على باب قلبكَ ينتظر أن تفتحَ له" . تحمّل المزعجين . يأتون لإزعاج بيتي الصّغير، كما يأتي المسافرون لإزعاج البيت الّذي نسكنه. هم مزعجون، لكن، إذا نحن لا نحبّهم بسبب الإزعاج الّذي يسببّونه لنا، هم، على الأقلّ، يحبّوننا. لنستقبلهم بسبب هذه المحبّة. ولو جاؤوا يطرحون أسئلة فضوليّة، يقولون لنا كرههم، يشتموننا، لنكن صبورين ومحسنين. بإمكاننا جعلهم أفضل من خلال صبرنا، لكن بإمكاننا إخافتهم لعدم إحساننا. نحن نتألّم لرؤيتهم يخطئون ؛ لكن نتألّم أكثر عندما نجعلهم يخطئون ونحن نخطىء أيضاً. لنستقبلهم باسم الله إذا لا نستطيع إستقبالهم بمحبّتنا. وسيعطينا الله تعويضاً بمجيئه هو، بعدها، يزؤرنا وإزالة الذكّرى المزعجة بملاطفاته الفوطبيعيّة. * حسب م ف، الجزء٤، الفصل ١٣٩، ص. ١٣٩ وتابع.
من يُقبل إليّ فلن يجوع ومن يؤمن بي فلن يعطش أبداً (يو٦ ٣٥). خلق أوضاع حياة جديرة لمخلوقات المسيح المغفورة، هو تخفيف آلآم هذا العالم، آلآماً ماديّةً وآلآماً روحيّة. لن يكون كلّ هذا دون
مكافأة. إذا أعطينا مكافأة لمجرّد كأس ماء مقدّم للمّار العطش، فماذا سنعطي لكوننا انتزعنا العطش الشّيطانيّ من روح ؟
أسئلة
أسئلة فحص المعارف
١) تظهر التّطويبات كموجز لفكر الله. هي كطرقات يدعونا الله لسلكها. هل باستطاعتي ذكرها بالتّرتيب ؟ وهل بإمكاني التّعريف بدقّة عن معنى التّطويبة ؟
٢) يُعطينا الفرح الكامل، المعروض بشكل مسرور في الفصل الثّامن من الفيورتّي، درسين مهمّين. ما هما هذين الدّرسين ؟
٣) كيف بإمكاننا التّأكد أنّ الإخوة الأصاغر، راهبات كلارا الأسّيزيّة وإخوة القدّيس فرنسيس العلمانيّن( وأيضاً جميع الإخوة الكبّوشيّين وجميع أفراد فروع العائلة الفرنسسيّة المختلفة) هم مدعوّين لعيش نفس الفقر الإنجيلي.
أسئلة تعمّق
١) تعبّر صلاة الإفخارستيّة الأولى عن شفاعتها للجمع بهذه الطّريقة :" ونحن الخطأة، الّذين نضع أملنا في رحمتكَ الّلا فانية،إقبل بنا في جمعيّة الطّوباويّين الرّسل والشّهداء... وجميع القدّيسين. استقبلنا في رفقتهم، دون الحكم علينا حول استحقاقنا بل بمغفرتنا، باسم سيّدنا يسوع المسيح." ما هي الرّوابط الّتي باستطاعتي تمييزها بين هذه الصّلاة وبين التّطويبات الّتي ينقلها إلينا متى ٥ ١-١٢ ؟
٢) في التّوصية١٤، يكشف لنا فرنسيس من خلال مثال العار الواقعي للفارسيّ الّذي هو أنا، أيّ عزيزي" الأنا" ، ما هو حقّاً فقر الرّوح. ما هو الحلّ أو الحلول الّتي باستطاعتي أخذها اليوم لعيش فقر الرّوح هذا مع محيطي الأكثر قرباً منّي( لكن دون إهمال الباقي، كما يذكّرني بقوّة الرّبّ متى٢٣ ٢٣)) ؟
٣) ما هي التّدابير الواقعيّة الّتي عليّ أخذها لأكون، منذ اليوم وحتّى مماتي، خادم العناية الإلهيّة ؟